الخميس، 28 يناير 2016

التقويم الصومالي و احتفال النيروش




الصوماليون تاريخياً استخدموا نوعين من التقويمات أحدها القمري و هذا تبعاً للعالم الإسلامي لتقديرمواعيد المناسبات الدينية والآخر تقويم شمسي قديم يرجع تاريخه إلى 2500 سنة تقريباً وربما أقدم من ذلك التاريخ. تم استخدام هذا التقويم الشمسي لأغراض مثل التنبؤ بحالة الطقس و السفر البحري و تحديد فصول السنة المختلفة. سنركز في هذا المقال على السنة الشمسية الصومالية أو التقويم الصومالي و الذي لا يعرف الكثير عنه أي شئ يذكر.


رغم عدم معرفة الكثيرين بهذا التقويم إلا أنه يعتبر واحداً من أكثر التقويمات دقة وكما أشرنا فهو يسبق التاريخ الميلادي السائد و المعروف بمئات السنين على الأقل. الصوماليون القدماء كانوا يمارسون حرفة الرعي و الزراعة و أيضا بعض الممارسات التجارية مع الأمم الأخرى كالفراعنة و الإغريق و غيرهم، حيث كانوا يتبادلون البضائع المختلفة وقد ساهمت احتياجات التجارة و الزراعة و الرعي إلى تشكيل هذا النظام الشمسي.


السنة الصومالية هي سنة استوائية في الحقيقة و تعتمد على الفصول الأربعة و الدورات الاسبوعية اعتماداً على الشمس فتتكون من أربعة فصول، 12 شهر، 52 اسبوعاً بالإضافة ليوم واحد، أو 365 يوماً. رأس السنة الصومالية يسمى طَب-شد (Dabshid) بمعنى اشعال النار و يسمى أيضاً بالنيروش (Neeroosh) وهذا اليوم يقع تقريبا في ال 20 من يوليو مقارنة بالسنة الميلادية. و هناك عدة دورات اسبوعية و سنوية يقوم على اساسها التقويم الصومالي و كلها ترتكز على الرقم (7).



نظرة عامة على قواعد السنة الصومالية:



بالإضافة إلى الاسبوع الذي يتكون من سبعة أيام هناك أربعة دورات رئيسية في هذا النظام:



أولاً: دورة الخمسين يوم: عبارة عن 7 أسابيع بالإضافة ليوم واحد.
ثانياً: الدورة السنوية: 7*50 + 15 يوم
ثالثاً: دورة ال 7 سنين: 7*365 = 2555 يوم
رابعاً: دورة 49 سنة: 7*7 = 17886 يوم


كل هذه الدورات و الوحدات الوقتية تتشارك في الرقم 7 بناء على أيام الاسبوع السبعة. وكل سنة من هذه السنوات تسمى على اسم اليوم الأول لتلك السنة و هي أيضا آخر يوم في دورة الخمسين يوم و الدورة السنوية. على سبيل المثال في عام 2007م أول يوم للسنة الصومالية وافق يوم السبت 21 يوليو 2007م ، فتكون دورة الخمسين يوم من يوم السبت 21 يوليو 2007م إلى يوم السبت 8 سبتمبر 2007م أما الدورة السنوية فتبدأ من يوم السبت 21 يوليو 2007م و تنتهي في يوم السبت الموافق 19 يوليو 2008م.



إذا أخذنا سنة السبت كمثال والتي بدأت 21 يوليو 2007م فأول 50 يوم من هذه السنة تسمى فترة السبت و ثاني 50 يوم تسمى فترة الأحد و هكذا تتبع بقية الفترات ترتيب أيام الاسبوع السبعة فيكون مجموع هذه الفترات 350 يوماً أو 50 اسبوعاً. لذلك يتم إضافة اسبوعين ويوم (15 يوم) لتنظيم السنة فيصبح المجموع 365 يوم.


و كطريقة لتقسيم السنة بالإمكان استخدام طريقة الفترات التي شرحناها سابقا (دورة الخمسين) كما هو موضح بالجدول المرفق الشارح لعام السبت في 2007-2008م. وهناك طريقة أخرى لحساب السنة عن طريق فصول السنة الأربعة و هناك 3 أشهر لكل فصل ، الفصل الأول هو فصل الصيف يسمى حاقا(Xagaa) باللغة الصومالية و هو عبارة عن 91 يوم أو 13 اسبوع. ثم يليه الخريف ويسمى دير (Dayr) بالصومالي ويليه فصل الشتاء المعروف بديراع (Diraac) و كلاهما بنفس عدد أيام و أسابيع فصل الصيف. أما فصل الربيع ويسمى قو (Gu') بالصومالي فهو عبارة عن 92 يوماً أو 13 اسبوعاً زائداً يوم. بالمحصلة السنة عبارة عن 12 شهر سبعة منها أيامها 30 و خمسة منها 31 يوماً. ويعرف فصلا حاقا(Xagaa) و ديراع (Diraac) بلفظة جيلال (Jiilaal) وهي فترة الجفاف التي لا تهطل فيها الأمطار. بينما يعرف الفصلان الآخران دير (Dayr) و قو (Gu') بلفظة نور (Nur) وهما فصل هطول الأمطار.


الفصول أيضا تقسم إلى فترات أقل من 10-20 يوم اعتماداً على تغير الأجواء و هطول الأمطار وبالإمكان الاطلاع على أسماء الأشهر الصومالية مقارنة بتوافقها مع الميلادي في الجدول أدناه.





دورة ال 7 سنين:


دورة السبع سنين تسمى بأيام الاسبوع فإذا بدأت أحد السنين بيوم الاثنين مثلاً فلا تعود سنة الاثنين إلا بعد سبع سنوات. مثلاً بداية السنة الصومالية من عام 2002-2009 كانت كالتالي:



سنة الاثنين (22 يوليو 2002)
سنة الثلاثاء (22 يوليو 2003)
سنة الأربعاء (21 يوليو 2004)
سنة الخميس (21 يوليو 2005)
سنة الجمعة (21 يوليو 2006)
سنة السبت (21 يوليو 2007)
سنة الأحد (20 يوليو 2008)
سنة الاثنين (20 يوليو 2009)



دورة ال 49 سنة:


هذه الدورة تعتبر امتداد لدورة السبع سنين و لا تستخدم إلا نادراً مثل السؤال عن مناسبات عبر الأجيال أو مثلا أن يسأل رجل كبير في السن عن عمره، فقد يقول لك عمري 11 خميس فيكون الحساب كالتالي: الخميس لا يتكرر إلا كل سبع سنوات فالحساب 11*7 = 77 سنة ..بالإضافة إلى أننا الآن في سنة الاثنين فنحسب فرق الأيام من الخميس إلى الاثنين .. الفرق ثلاث أيام أي ثلاثة سنوات إضافية فيصبح عمره = 77+3= 80 سنة. أو حينما يتحدثون عن أحداث تاريخية كحفر إبر أو حرب حدثت منذ كذا خميس أو كذا جمعة و هكذا.



العادات المصاحبة لرأس السنة الصومالية:


تقام الاحتفالات سنوياً في شهر يوليو في يوم النيروش أو طَب- شد (Dabshid) احتفائاً ببداية السنة الشمسية الصومالية. و كان يقام مهرجان يعرف بمهرجان النار، حيث كان السكان يشعلون نار عظيمة ويرشون الماء على بعضهم البعض و الرقص للترحيب ببداية السنة و فصل الصيف. وهي من أكثر المناسبات المرحة وكان يحضرها الصغار و الكبار.


ربما تعود هذه الاحتفالات إلى العصر الذي كان يؤمن فيه الصوماليون بإله السماء واق (Waaq) واستمرت بعض هذه العادات حتى بعد الدخول في الاسلام. فكانت كل عائلة تشعل النار ومن ثم يقفز كل فرد فوق تلك النار للإنتقال إلى السنة الجديدة. و الذي لا يقفز فوق النار معناته أنه لن يكون مباركاً في السنة الجديدة وقد تراجعت مثل هذه المعتقدات شيئاً فشيئاً بعد دخول الاسلام.



الاحتفال برأس السنة الصومالية لم يختفي كلياً بعد الاسلام و مازلت بعض أهل البادية يحتفل باشعال النيران، وفي الجنوب الصومالي تطور مفهوم الاحتفال بداية من عصر مملكة أجوران ليتحول إلى ما يشبه المسابقات العسكرية والمعارك الوهمية بين عدة فرق بأسلحتها لتستعرض القبائل قوتها و اسلحتها.


خاتمة:


للأسف تاريخ بدء استخدام التقويم الصومالي غير معلوم على وجه الدقة لكنه قديم جداً قبل الميلاد و هذا بسبب انتقاله عبر التراث الشفوي لشعبنا دون تدوينه أو كتابته. لكن من الممكن تتبع نظام هذا التقويم و تطويره و إبرازه ليكون مميزاً للأمة الصومالية عن غيرها من الشعوب. كما على الرغم من توافق كثير من الشعوب على الاحتفال بالنيروز يوم 21 مارس إلا أنها تختلف في تفسيرها لسبب الاحتفال أو أصله حسب اختلاف المعتقدات.


فبينما يرتبط عيد النوروز لدى الأكراد بأسطورة كاوا - الحداد الكردي الذي قاد ثورة ضد الملك الظالم ضحاك وأشعل النار على أبراج قصره ابتهاجاً بالنصر لذلك تعتبر النار رمزاً لعيد النيروز، بينما في الفرس ارتبطت النار بالثقافة الزرادشتية و إيمانهم بأن الله خلق آدم و الشمس في هذا اليوم.


يبقى غير معروف تاريخ دخول احتفال النيروش على الثقافة الصومالية رغم البعد الجغرافي واختلاف تاريخ الاحتفال عن بقية شعوب وسط آسيا، فالأمر بحاجة لمزيد من الأبحاث للتوصل إلى حقيقة الموضوع و معرفة أوجه الشبه و الاختلاف مقارنة ببقية شعوب العالم القديم.


لمزيد من المعلومات:

The Somali Calendar: An Ancient, Accurate Timekeeping System

By Said M-Shidad Hussein


الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

مغامرات أرض الصومال و استكشاف منبع النيل



مقدمة:

بينما أبحث عن صور صومالية قديمة لإدراجها مع بحثنا السابق حول تسريحات الصومالين القدماء وقعت على صورة عجيبة تستنطق من ورائها قصة. كانت صورة لرجل أبيض يبدو انجليزيا و هو مقيد بالحبال هاربا من رماح البدو الصوماليين. شدتني الصورة و أصابني الفضول لمعرفة القصة ورائها و معرفة هوية هذا الرجل الأبيض الذي لم يكن سوى المستكشف الانجليزي الشهير الضابط جون هانينج سبيك " John Hanning Speke" صاحب مذكرات "ما أدى إلى اكتشاف مصدر النيل"  " What Led to the Discovery of the Source of the Nile ". كان المؤلف ضمن هذه الصورة التوضيحية في مقدمة مذكراته مجسداً هروبه من أسر القبائل الصومالية التي وقع في قبضتها بالقرب من بربرة في باكورة رحلاته الإفريقية. فمن هو جون هانينج سبيك ؟ و ما هي قصته يا ترى ؟ دعونا نعود للقرن التاسع عشر لنعرف قصة الرجل:

رحلاته لأرض الصومال:


ولد جون سبيك في بريطانيا عام 1827م و أصبح ضابطاً في الجيش الهندي البريطاني حيث شارك في الحرب الأولى ضد مملكة البنجاب السيخية عام 1845م، ثم قاد ثلاث رحلات استكشافية إلى إفريقيا و كان أول أوربي يصل إلى بحيرة فيكتوريا في بحثه عن مصدر نهر النيل. وكان جون سبيك يقضي إجازاته في الهند في الصيد واستكشاف جبال الهمالايا و قمة ايفريست حتى أنه عبر إلى التيبت ذات مرة. وصل إلى عدن في العام 1854م و التي كانت تحت الحكم البريطاني وقتها كنقطة إنطلاق إلى الأراضي الإفريقية. كان قد أخذ 3 سنوات إجازة من عمله لصيد الحيوانات الافريقية النادرة و البحث عن منبع النيل خلال سنتين ثم التمتع بالسنة الثالثة في منزله في بريطانيا.
John Hanning Speke

قدم رسالة إلى حاكم  عدن البريطاني يطلب منه السماح لعبور خليج عدن تجاه أرض الصومال لصيد بعض الحيوانات الافريقية ليضمها إلى متحف التاريخ الطبيعي الذي تملكه عائلته في مقاطعة سومسرت " Somerset" جنوب غربي بريطانيا و الغني بنماذج من الحيوانات التي نقلها من الهند و التيبت و الهمالايا. تم رفض طلبه من قبل الحاكم السياسي وذلك لاعتبار أرض الصومال منطقة خطرة و غير آمنة للأجانب، و كان الحاكم يرى واجباً له كمسيحي أن يمنع أي أحد من رعاياه أن يخاطر بنفسه للذهاب هناك.

وكان من حسن حظ  جون سبيك أن حكومة بومباي وقتها أمرت بإنفاذ بعثة تحري و استكشاف للأراضي الصومالية بقيادة المستكشف البريطاني الشهير ريتشارد بورتن " Richard Burton" والذي كان لديه مقعد شاغر لوفاة أحد مرافقيه قبل السفر. ذلك على الرغم من اعتراض الحاكم في عدن و تأكيده على أن الصوماليين أكثر الأفريقين وحشية و أنه حسب رأيه لا يمكن أن يعيش بينهم رجل غريب. تمت الموافقة على انضمام جون سبيك للرحلة بعد إلحاح شديد و توقيعه على تعهد بعدم مسؤلية الحاكم عن سلامته واعتبار سفراته السابقة لأماكن نائية في الهند و خبرته في الصيد و المسح الجغرافي و الفلكي.

انقسمت البعثة إلى قسمين الأولى بقيادة ريتشارد بورتن متجهة إلى هرر و الأخرى بقيادة جون سبيك و اتجهت إلى وادي نوغال في الشمال الشرقي لأرض الصومال. في هذه الرحلة واجه جون سبيك متاعب من قبل الدليل المحلي الذي تسبب في خداعه فعاد إلى عدن و التقى بريتشارد بورتن هناك و الذي أمر بأن يعاقب الدليل و يسجن جزاء له. كتب جون سبيك عن الصومالين:

" تعرفنا على الصومالين بشكل أساسي منذ احتلالنا لعدن، على الرغم من أن العديد منهم يمارسون التجارة و القيام بالخدمات البسيطة مثل الحمالة و قيادة الحمير في الميناء. إلى أنه يمكن التعرف عليهم بسهولة من مظهرهم الفريد و طبيعتهم الصاخبة و المتباهية وكذلك بميولهم للغش و المكر. النجاح في الاحتيال من أكثر الطرق المقبولة لديهم لكسب الرزق. كما نستنتج من تاريخهم فهم خليط بين الحاميين و الساميين و تظهر لديهم صفات متنوعة تجمع الأصلين. فهم ذو قامة طويلة و نحيفة ،أكثر سمرة من العرب و يمتازون بالخفة والرشاقة كالغزلان. الشفاه و الأنوف رقيقة تبدو أغريقية مقارنة بالسود لكن رؤوسهم صوفيه كالسود تماماً.

طبيعتهم صاخبة وحربية و في عدن وجد من الضروري أن يتم نزع سلاحهم. حينما وصلوا هنا أول الأمر لم يكن منظراً مستغرباً رؤية الرجال من قبائل مختلفة يتقاتلون على سفح تل كريتر برماحهم و دروعهم. الآن وحتى بدون أسلحتهم  يتشاجرون بعض الأحيان بالعصي و الحجارة. من النادر أن ألا تجد أحدهم لديه ندبات أو آثار جروح من الاضطرابات التي تقع بينهم، بعضها عميق و خطير لدرجة تستعجب كيف تعافوا منها.

لباسهم بسيط فالرجال لديهم يحتقرون السراويل و من يلبسها لا يعتبرونه رجلاً فيلبسون قطعة واحدة من القماش بطول ثمانية أذرع ملقاة على الكتف تشبه زي الرجال الاسكوتلنديين. بعضهم يحلق رأسه كاملاً و آخرون يرتدون بدة الأسد الكثة كنوع من الباروكة و الذي من المفترض أن تمد صاحبها بالشراسة و الشجاعة. فيما يترك آخرون شعرهم ينمو ثم يضعون في تبتختبر بعض الأعواد في شعرهم تشبه الأعواد الصينية يستخدمونها كمشط. كلهم يحملون الرمح و الدرع و عصى سميكة و سكين طويلة ذو حدين."

جون يستفيض في وصف الصوماليين وشرح عن لبسهم و عاداتهم في عدن وعن طبيعتهم الرعوية و الصراع على المصادر و الثروات في الصومال مما يفسر بوجهة نظره الطبيعة العنيفة و المتمردة للفرد الصومالي. وشرح نظام الحكم هناك بأنه نظام أبوي يسمى زعيم القوم سلطان أو قراد تتمثل سلطته في جمع الشيوخ فيما يشبه البرلمان لأخذ المشورة في حل النزاعات و الغزو.( مذكرات جون مليئة بالتفاصيل حول الصوماليين و استضافته من قبل سلطان الورسنقلي و سأذيل هذا البحث بمذكراته للإستزادة). نعود الآن إلى رحلته الثانية:

تجهز أربعة من الرجال منهم ريتشارد و جون سبيك مرة أخرى للقيام برحلة أخرى إلى بربرة ثم الاتجاه نحو الأوغادين. بينما هم يخيمون خارج مدينة بربرة هاجمهم ليلاً مجموعة من الصوماليين برماحهم فقام المستكشفون باستخدام اسلحتهم النارية و خاصة جون سبيك الذي أطلق النار على عدد من المهاجمين. قتل أحد المستشكفين الأربعة برمح بينما جرح ريتشارد بورتن جرحاً بالغاً، أما جون سبيك فأصيب أيضاً وكان الوحيد الذي تم القبض عليه بينما هرب ريتشارد و رجل آخر. تم ربط جون سبيك بالحبال و حكى أن أحد المحاربين هدده بقطعه لنصفين بسيفه الذي رفعه مرتين و هوى به على بعد انش منه و لم يظهر منه أي مظهر للبكاء أو التوسل فتركه المحارب. و كما يعتقد جون سبيك بأنه كان سيقتل إذا أظهر أي نوع من البكاء أو التوسل و أن هذا كان اختباراً له. يقول جون سبيك:

" كان الأسوء هو ربطي بالحبال ثم اقترب أحد السجانين مني و طعنني بهدوء برمحه و حينما حاولت المقاومة طرحني أرضاً بعنف و ثبتني بالرمح على كتفي وكادت شراييني تتقطع. ثم طعنني مرتين بالرمح في كتفي و آخيرا في فخذي الأيسر حتى وصل إلى العظام. استطعت أن أمسك بالرمح و لم أتركه حتى أخرج عصى غليضة من حزامه وضربني بها تكراراً على ذراعي الأيسر اعتقدت بأن عظامي تكسرت.

وحينما رآني أقاوم ترك الحبال و عاد بضع أمتار ثم اندفع علي بغضب و وحشية حتى دفع برمحه ليخرج من الجهة الأخرى لفخذي. هنا اعتقدت أن الموت أمر حتمي و بقيت ممدداً على الأرض لفترة، استطعت أن استجمع قواي و أعود عليه بلكمة بكلتا يدي الموثقتين بالحبال مما أفقده التوازن و أعطاني فرصة للهرب، كنت أجري و يداي مضمومتان لصدري حتى لا أتعثر بالحبل و كنت أجري و أنا شبه عاري. ركضت باتجاه الشاطئ كالنار على الهشيم، حاول أن يلحق بي  و لما رآني سبقته بمسافة أصبح يرمي بالرماح باتجاهي لكنني تمايلت و أخفضت رأسي ثم تركني.

 لكن مع ذلك كان علي تجاوز 40 آخرين كانوا يبحثون عن ما ينهبونه من المخيم و كنت أتمايل و أتجاوزهم بسرعة و هم يرمون بالرماح خلفي و حينما أقتربت من الشاطئ رأيتهم و قد تخلوا عن مطاردتي و كنت على وشك الإغماء من كثرة الدماء التي خسرتها.  جلست على كومة من الرمال و فككت الحبال على يدي بأسناني و تركت صدري عارياً أمام النسيم المنعش القادم من البحر."

استطاع سبيك اللحاق بصاحبيه ثم سارعوا بالفرار على متن قارب على الساحل باتجاه عدن، تعرضت الحملة الاستكشافية لخسائر مالية عوض سبيك بعض الخسارة من العينات التي جمعها في رحلته السابقة.عاد جون سبيك إلى بريطانيا للعلاج و بعد تعافيه شارك في حرب القرم في التحالف ضد روسيا القيصرية حيث تحالفت بريطانيا و فرنسا و الخلافة العثمانية و سردينيا (ايطاليا) انتهت الحرب بانتصار الجانب العثماني على الروسي و توقيع اتفاقية باريس عام 1856م. 

الرحلة الاستكشافية لمنابع النيل:

التقى جون سبيك مرة أخرى مع ريتشارد بورتون في رحلة لاستكشاف منابع النيل ابتدأت من زنجبار عام 1857م باتجاه البحيرات العظمى. و حينما اقتربوا من حدود بورندي مرض ريتشارد بورتن مرضا شديداً و أصيب جون سبيك بعمى مؤقت مع اتجاههم غرباً. و بعد رحلة شاقة وصلوا إلى بلدة أوجاجي القديمة غرب تنزانيا في فبراير عام 1858م و بذلك أصبحوا أول أوربيين يصلان إلى بحيرة تانجانيقا على الرغم من أن جون سبيك على مصاب بعمى جزئي و لا يرى جيداً وقتها. قررا استكشاف البحيرة و لكنها كانت واسعة و السكان المحليون لا يملكون إلا زوارق صغيرة ، ريتشارد بورتن كان قد أعياه المرض فأكمل جون سبيك الرحلة مع بعض المحليين مستعينا بعدة زوارق للذهاب إلى الجانب الغربي من البحيرة حيث سمع أنه يوجد رجل عربي لديه سفينة كبيرة للتأجير. (بحيرة تاجنيقا بطول 400 ميل من الشمال للجنوب و لكنها فقط بعرض 30 ميلاً).

تقطعت السبل بجون على أحد الجزر في البحيرة وزادت معاناته بعدما أصيب بالصمم المؤقت وحاول إزالة وقطع أحد أذنيه بالسكين. لم يستطع أن يستأجر السفينة من الرجل العربي فعاد أدراجه إلى بلدة أوجاجي. لم يكن الرجلان في وضع يسمح لهم باستكشاف البحيرة بشكل صحيح، و سألوا إن كان هناك نهر ينبع من شمال البحيرة فقيل لهما نعم و لكن كان هذا الأمر محل شك بالنسبة لهما و لم يتمكنا من التأكد أن هذه البحيرة هي مصدر النيل خاصة و أنها تقع على ارتفاع 2000 قدم فوق سطح البحر.

Richard Burton


سمعوا ببحيرة أخرى في الشمال الشرقي من موقعهم و كانت الفكرة أن يمروا بهذه البحيرة في طريق عودتهم للشاطئ تجاه زنجبار ولكن ريتشارد بورتون كان ضعيفاً و منهك من المرض فبقي في المعسكر. بينما ذهب جون سبيك و معه 34 من المحليين في رحلة جانبية لمدة 47 يوماً في رحلة قاربت 452 ميلاً في الشمال الشرقي وفي يوم 30 يوليو 1858م أصبح جون سبيك أول أوربي يشاهد بحيرة فيكتوريا و أول من رسم خريطة لها و بالفعل ثبت لاحقاً أن هذه البحيرة هي مصدر نهر النيل. رغم أنه قد فقد معظم معدات المسح في طريق الرحلة و لذلك لم يستطع أن يحدد مدى ارتفاع البحيرة و سعتها ، كما أن عيناه كانت مازالت مصابة بعمى جزئي و كانت بعض الجزر على الأفق تسد عليه مجال الرؤية.

عاد جون سبيك إلى المخيم ونقل الاخبار لريتشارد بورتن ولكنهما كانا في وضع سئ فقررا العودة إلى زنجبار و منها إلى عدن. و في معظم الرحلة كان الرجلان لا يقدران على المشي و كانا يحملان حملاً من شدة المرض، تعالج الرجلان في عدن و تعافى جون سبيك أسرع من صاحبه فسافر قبله إلى بريطانيا و اتهمه ريتشارد بورتن أنه لم ينتظره ليعلنا سوية عن بحيرة فيكتوريا و أنها المنبع للنيل الأبيض فتراجع عن رأيه و أيد نظرية أن نهر النيل ينبع من بحيرة تنجانيقا. أثيرت ضجة كبيرة في بريطانيا و زادت الخلافات بين الطرفين و ريتشارد بورتن الذي كان في حالة صحية سيئة لم يستطع إقناع السلطات بتمويل بعثة أخرى لحل الاشكالات حول مصدر النيل.

تم تعيين جون سبيك كقائد لرحلة استكشافية أخرى إلى بحيرة فكتوريا عام 1860م وذهب مع مستكشف آخر اسمه جيمس قرانت. وقد واجهوا مشكلة عدم تعاون السكان المحليين معهم في تنزانيا وذلك لانتشار تجارة الرقيق من العرب الذين كانوا يسرقون المحليين لبيعهم كرقيق فكان المحليون إما يهربون أو يقاتلون أي رجل غريب. فضاع الكثير من الوقت و المال لدفع الهدايا للسكان المحليين و كسب ثقتهم ليتعاونوا معهم. و بعد مدة طويلة من التأخير وصل جون سبيك إلى بحيرة فكتوريا يوليو عام 1862م، بدأ من جنوب البحيرة باتجاه الغرب حتى وصل للشمال حيث شاهد نهر النيل و هو يتدفق من البحيرة.

كان جون سبيك في ضيافة أحد الملوك المحليين والذي عامل جون بلطف و أهداه فتاتين بعمر 12 و 18 وقد وقع في حب الكبرى منهن واسمها ميري كما ذكر في مذكراته (وتم حجب هذه المعلومة حينما طبع كتابه لاحقاً). ورغم أن ميري لم تقصر في واجباتها الزوجية إلا أنها لم تظهر ارتباط عاطفي بجون سبيك الذي تحطم قلبه فقد كان يأمل بمشاعر عاطفية متبادلة. بقي جون سبيك عدة أشهر محاولاً الفوز بقلب ميري و حينما فشل تركها و اتجه مع مجرى النيل إلى بلدة غدنكرو (Gondokoro) جنوب السودان محاولاً رسم خرائط مجرى النيل. والتقى هناك بالحاكم العام لحوض النيل الاستوائية صاموئيل بيكر و زوجته فورانس (اشتراها في رحلة صيد في بلغاريا ثم تزوجها لاحقاً). استقل جون سيبك سفينة للحاكم صاموئيل باتجاه الخرطوم حيث أرسل رسالة تلغرام إلى لندن بأنه تمت تسوية أمر النيل و معرفة مصدره.

ريتشارد بورتون أشار إلى أنه لا يمكن تأكيد هذه الحقيقة لأن جون سبيك لم يستقل سفينة من منبع النيل إلى بلدة غدنكرو (Gondokoro) فقد يكون نهراً آخر!. فقرر الحاكم العام لحوض النيل صاموئيل بيكر أن يستقل سفينة جنوباً باتجاه بحيرة فيكتوريا و بعد مصاعب جمة وصل للبحيرة و أكد اكتشاف جون سبيك و أن النيل ينبع من بحيرة فيكتوريا ثم إلى بحيرة ألبريت ثم إلى بلدة غدنكرو (Gondokoro).

عاد جون سبيك و قرانت إلى بريطانيا في يونيو 1863م و تم استقبالهم استقبال الأبطال العباقرة، رغم تنغيص ريتشاد بورتن عليه بانتقاداته التي كانت تجد من يسمع لها كونه  شخصية معروفة و كاتب موهوب. على النقيض لم يكن جون سبيك كاتباً موهوباً فواجه صعوبات في كتابة وشرح اكتشافاته مما حدا إلى طلب عقد مناظرة عامة أمام الجماهير مع ريتشارد بورتون  حول النيل. كان من المقرر إجراء مناظرة بين الرجلين في القسم الجغرافي للرابطة البريطانية في 16 سبتمبر 1864م. لكن جون سبيك توفي قبل المناظرة بيوم بينما كان في رحلة صيد ارتد عيار ناري خطأ من بندقيته في محمية نيستون (Neston Park) في ويلتشير (Wiltshire) فتوفي على الفور.

خاتمة:

ولد جون سبيك في العام 1827م و توفي عن عمر يناهز ال 37 عاماً فقط في العام 1864م وقد صعد الهمالايا و استكشف أدغال إفريقيا و البحيرات العظمى حيث ينبع نهر النيل من بحيرة فكتوريا ووقع في حب ميري. حارب في البنجاب و حارب الروس في القرم ورغم العقبات و الصعوبات إلى أنه استطاع أن يحقق الكثير و يخدم بلاده سواء بخدمته العسكرية أو اكتشافته و تقاريره الجغرافية ، كما لم ينسى ممارسة هوايته في الصيد و جمعها في متحف العائلة. وربما كان قدره أن يفلت من أيد الصوماليين ليستكشف منبع النيل و يغدوا من مشاهير المستكشفين في القارة المظلمة.  



     

الاثنين، 21 ديسمبر 2015

تسريحات الشعر للصوماليين القدماء



كانت التسريحات الشعر جزءاً هاما من اللباس الصومالي قديماً في البادية حيث كانت هذه التسريحات تحدد الفئة العمرية أو الجنس أو الحالة الاجتماعية. حتى موعد الختان الذي يكون عادة في السادسة أو السابعة من العمر يتم حلق شعر الأطفال بتسريحات متعددة. أحد هذه التسريحات تدعى مقبض الله (Handle of Allah) و هي عبارة عن حلق شعر الطفل كاملاً مع ترك خصلة شعر واحدة في الجزء العلوي من الرأس، هذه التسريحة للأطفال الذين يعانون من المرض أو على وشك الوفاة حتى تقودهم الملائكة من هذه الخصلة إلى الجنة  حسب معتقد أهل البادية.


مع تقدم الفتيات في السن يسمح لهن بإطالة شعرهن حتى يصلن إلى سن البلوغ، و بعد البلوغ تستخدم تسريحة معروفة و مميزة للإشارة إلى أن الفتاة متاحة للزواج و تسمى الفتاة في هذه المرحلة ب "القشانتي". فتقوم بتسريحة الجدائل حيث تجدل شعرها الطويل إلى مئات من الجدائل الصغيرة من أعلى الرأس إلى القاعدة مع ترك هالة من الشعر الكث حول الرقبة. و بعد الزواج تمشط الجزء الكث حول الرقبة و تحوله إلى ظفيرتين في مؤخرة العنق ثم تغطي شعرها بوشاح رقيق مصنوع من القماش الأسود أو النيلي المصبوغ يسمى (شاش)، هذه العادة أيضا مشتركة مع نساء العفر و الساهو و الأورومو.

أما تسريحات الرجال فكانت أكثر تفصيلاً و تنوعاً رغم ملاحظة أحد المستكشفين الأوروبين بأن كبار السن من الرجال قد يحلقون رؤوسهم و يطلقون لحية صغيرة، خاصة إذا كان أحدهم محظوظاً و أدى فريضة الحج إلى مكة. و تشير صور القدماء أنهم كانوا يتركون شعر الرأس ينموا بطول يقارب شعر النساء و بعد الزواج يخفف الرجال من شعرهم الطويل، وقد اعتقد بعض المستكشفين الأوائل أن الرجال الصومالين يلبسون باروكة شعر. ففي عام 1830م كتب فريدرك فوربس (Frederick Forbes) في مذكراته:

" الباروكة مصنوعة من الشعر المستعار من جلد الغنم الأسود مع الصوف المصبوغ أو الحناء البني المحروق و يرتدونه بدقة متناهية تحاكي باروكة الشعر المستعار للمحامين"



وقد كان فريديرك يقارن شعر الرجال الصوماليين بالباروكة البيضاء التي كان يلبسها المحامون و القضاة البريطانيون في المحاكم. بينما ذكر مستكشف آخر في العام 1860م ملاحظاته كما يلي:

" يمشط الرجال شعرهم إلى جدائل صغيرة تظهر و كأنها اسفنج سميك. لا يلبسون رداء على الرأس و يعطون الكثير من الرعاية و الوقت لشعرهم الفاخرة و حتى لا يتشوش شعرهم ليلاً يسندون رؤوسهم على مخدة خشبية صنعت لهذا الغرض. كما يغيرون لون شعرهم من خلال استخدام الحناء. ولديهم عادة حلق شعر الرأس بالكامل و استبداله بباروكة كثة من شعر الغنم المستعار مصبوغة باللون الأحمر، و أؤلئك الذين قتلوا أعداء في المعركة يرتدون ريشة نعام على رؤوسهم."

فكما نلاحظ كان هؤلاء المستكشفين الأوربيين الأوائل في القرن التاسع عشر مستغربين من شعر الرجال الصوماليين و يعتقدون أنه باروكة مستعارة من شعر وجلد الحيوانات. بينما لاحظ المستكشف الأشهر ريتشارد بيرتون " Richard Burton" أن الفتيان أو الرجال في عمر المغازلة و الزواج يشكلون شعرهم بأشكال متعددة وذلك بتزيت الشعر بدهن حليب النوق ثم تشكيله بأشكال شبهها بيرتون بطاقية الأطفال (نوع من الطواقي التي كان يلبسها أطفال البريطانيين في القرون الوسطى) أو اسفنجة أو باروكة مستشار أو محامي.

 كما أن مظهر الشعر و لونه من الممكن التحكم به عن طريق الطين أو الصلصال أو الحناء أو الرماد. فربما كان رؤية الأوربيين بعض الرجال الصوماليين يغطون شعرهم بالطين أو الحناء ما أعطاهم الانطباع بأنهم يلبسون باروكة من الشعر المستعار. فاللون الأحمر للشعر ممكن بتبيض الشعر بالكلس الجيري ثم استخدام الحناء و هذا جيد من الناحية الصحية فهذا المزيج يقتل القمل.


للحفاظ على التسريحة كان الرجال يسندون رؤسهم ليلاً لمخدة خشبية تسمى بركن "barkin" و كانت تساعد على أن لا يلمس الشعر الأرض أو يتجعد. و أيضاً كانت تساعد الرجال على أن يكون نومهم خفيفاً ليكونوا متيقضين للأسود و قبائل البدو المنافسة، وكانت هذه المخدات الخشبية ذات طابع خاص و تزخرف بزخارف هندسية معقدة على امتداد الجوانب. هذا بالإضافة لتوفر المشط الخشبي المعروف بال "سقف" للحفاظ على أناقة الشعر و التسريحة المميزة.  

ختاماً كما رأينا فإن أجدادنا كانوا يهتمون بشعرهم يشكلونه حسب الحالة الاجتماعية ، فمن نظرة واحدة تستطيع أن تتعرف إلى من هو جاهز للزواج و من هو متزوج و من هو العائد من الحج و من هي الفتاة المتاحة و الغير متاحة و من من الأطفال يعاني من المرض. كانت لهم استايلاتهم الخاصة و المميزة و التي أعتقد الأوربيون للوهلة الأولى أنها باروكة مستعارة، و من يدري فربما أخذ الغربيون أحد هذه الاستايلات و سموها بالأفرو الذي انتشر في ستينيات و سبعينيات القرن الماضي و لو بحثنا فقد نجدهم استعاروا منا أنواع مختلفة من التسريحات و الموضة.  

:المصادر

The Politics of Dress in Somali Culture

Somalia: A country Study