الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

المخلص الصادق لا يخسر



مقدمة:

مضت مدة طويلة لم أكتب خلالها أو أنقل لكم قصصا من التراث الصومالي كما جرت العادة ، هذه المرة أعود لكم بقصة مشوقة من نوعية القصص السرنديبية تحمل معاني جليلة و حكمة عظيمة تستحق أن نتخذها دستوراً في تعاملنا مع الله ومع الناس.

القصة:

كان يا مكان في قديم الزمان، كان هناك صديقان يسميان ب "موقي و ديق" كانا يعيشان في إحدى المدن و كانا يعملان بالشحاتة حيث يدوران في الأسواق بحثاً عن عطف و إحسان المحسنين و كانا يقتسمان الطعام آخر النهار تماما مثل الأخوين. و في الليل ينامان بجوار بعضهما في إحدى خرابات المدينة ، هكذا كان الحال مدةً من الزمن.

كان موقي صاف النية و كان يستمتع كثيراً بصحبة ديق و يتمنى من كل قلبه أن تستمر هذه الصداقة و يستمرا في اقتسام الأرزاق. أما ديق فكان يحمل في صدره رغبة مغايرة و كان يتمنى لو كان هو الشحات الوحيد في المدينة حتى تخلو له الساحة و لا يضطر للتقاسم مع موقي.

و في يوم من الأيام لم يشعرا بالوقت و هما يدوران في أسواق و طرقات المدينة حتى انتصف النهار و اشتدت حرارة الشمس بعد الظهيرة، و خلال هذه الفترة كان جميع السكان في بيوتهم يتقون حر الشمس تحت الظلال. اقترب الوقت من العصر و اشتدت حرارة الشمس على الصديقين موقي و ديق و بلغ بهما العطش مبلغه فقررا التوجه إلى بئر على أطراف المدينة بحثاً عن الماء.

و فعلا وصلا إلى البئر و كانت الأرض مقفرة و خالية في الأرجاء و لسوء حظهم لم يجدا دلواً يرميانه إلى البئر لغرض السقيا. فقال ديق "ماذا نفعل الآن ؟" و هو يتأفف من شدة الحر، هنا اقترح موقي بأن يربطا حول خصريهما قطعة قماش كانت معهما تماما كالحبال فيهبط أحدهما للبئر و يشرب ثم يرفعه صاحبه و ينزل التالي حتى يشرب كلاهما واتفقا على تنفيذ الخطة.

و بالفعل ربط ديق القماش حول خصره و نزل إلى البئر بمساعدة صديقه موقي الذي بقى أعلى البئر و حينما ارتوى ديق من ماء البئر رفعه موقي إلى الأعلى ، هنا حان دور موقي للنزول إلى البئر فربط القماش في وسطه و أمسك ديق القماش في البداية و ما إن اقترب  موقي من قعر البئر حتى تذكر ديق أمانيه و رغبته بالتخلص من موقي حتى تخلوا له المدينة و قال في سره " لقد حانت فرصتك اليوم" فأفلت قطعة القماش ثم انصرف و كأنه لم يفعل شيئاً.

وقع موقي في قعر البئر و لحسن الحظ لم يصب بأذى ، فأحسن النية بصديقه ديق و قال في نفسه " لعل القماش أفلت منه" فأخذ ينادي صديقه و لكن لا إجابة ظل يردد و ينادي و حينما لم يسمع أي صوت صمت موقي آخيرا. و في منتصف الليل سمع حركة غريبة أعلى البئر و سمع أصوات ضباع تقترب، كانوا ثلاثة ضباع و ياللعجب سمعهم يتحدثون فقال الضبع الأول " هل تعرفون بنت الملك التي لم تجد دواءاً لعلتها لو أنهم قصوا أظفارها العشرين ثم بخروها به لطابت من مرضها".

و قال الضبع الثاني للأول " هل تعلم أن هناك خزنة من الذهب مدفونة تحت الشجرة الكبيرة في شرق المدينة" ، و قال الثالث " هل رأيتم هذه المدينة الظمئانة الشحيحة المياه لو أنهم أزاحوا الصخرة الكبيرة في شمال المدينة لتفجرت المياه من تحتها و أصبحوا في نعمة". انصرف الضباع الثلاثة و استسلم موقي للنوم من شدة التعب و هو متعجب مما سمع و لم يستيقظ إلا على أصوات مجموعة من الناس قدموا للتزود من البئر في صباح اليوم التالي. تمسك موقي بأول دلو تم رميه و أحس صاحب الدلو بثقله فطلب المساعدة و بالفعل خرج موقي من البئر و الناس حوله مندهشون.

 فحكى لهم و هو يرتجف من شدة البرد ما حدث له بالأمس و كيف تركه صديقه ديق بعدما أفلته في البئر، اتجه بعد ذلك إلى المدينة متجهاً إلى قصر الملك و بعد محاولات عديدة تم السماح له بالدخول و رؤية الملك. دخل إليه موقي و قال له " لدي دواء ابنتك الذي أعيا الأطباء". صرخ الملك في وجهه و قال له " يا ويلك إن كنت تكذب علي لأفصلن رأسك عن جسدك و قد فعلتها بكثيرين قبلك كذبوا علي".

رد موقي بثقة " أنا لا أكذب و سأعالج ابنتك و لكن ما جائزتي إن عالجتها؟" ، رد عليه الملك " إنني أنصحك بأن تحتفظ برأسك و لقد يأست من شفاء ابنتي ، و هي وحيدتي فإن أنت داويتها فأعدك بأنني سأزوجها لك". تجمهر أهل الملك لمشاهدة هذا الرجل الذي يدعي قدرته على مداواة ابنة الملك و كان الكثير منهم يتأسف لهذا المسكين الذي سيقطع رأسه بعد قليل. ابتدأ موقي بقص أظافر ابنة الملك بمكينة و قد استغرب الحضور فهم كانوا يظنون أن معه دواء للشرب ! طالبهم بموقد فيه جمر و غطاء ، و فعلا وضع الأظافر التي جمعها في الموقد ثم غطى ابنة الملك و الموقد بجانبها و الجميع مترقبون إلى ما ستنتهي إليه الأمور.

بعد برهة من الزمن استيقظت ابنة الملك من غيبوبتها و كأنها كانت في نوم ، و قالت صارخة " الحمدلله أنا بخير ...لقد شفيت". فرح الملك و أهله فرحاً شديداً بشفاء ابنتهم الوحيدة ، و بالفعل أوفى الملك بوعده و تزوج موقي من ابنة الملك و أصبح أميراً من العائلة المالكة. و بعد فترة من الزمن و بينما يتشارك موقي جلسة عائلية مع الملك تحدث للملك قائلاً " ماذا لو أخرجت لكم ماءاً و أنهيت عطش أهل المدينة و حللت مشكلة قلة المياه ، ماذا يكون جزائي عند جنابكم؟".

أجابه الملك " الماء هو حياة للناس و الماشية و النباتات و لو نجحت و أتيتنا بالمياه فسوف ترث العرش من بعدي". وافق موقي على ذلك وطلب من الملك أن يشهد الشعب على قرار وراثة العرش. و في صبيحة أحد الأيام نفخت الأبواق و اجتمعت رعية الملك في ساحة المدينة يترقبون حديث الملك. تحدث إليهم الملك و أخبرهم بقراراه توريث العرش لزوج ابنته الوحيدة إن تمكن و حل معضلة المياه ، وافق الشعب على ذلك إن تحقق الشرط.

هنا تحدث موقي للشعب و طلب منهم أن يحملوا معاولهم إلى شمال المدينة عند الجبل الصغير و يزيحوا الصخرة الكبيرة هناك. ذهب جميع رعايا الملك باتجاه الصخرة و بدأو العمل بضرب معاولهم على الصخرة الضخمة و بعد جهد كبير تفجر ينبوع ماء عذب أسفل الصخرة . و بعد سنوات توفي الملك و تولى موقي الحكم ليصبح الملك الجديد للمدينة كما كان متفقاً عليه.

أما خزنة الذهب فلم يخبر موقي أحداً بالأمر و بنى بيتاً فوق موقع الكنز و استخرج الذهب. مرت الأيام و موقي يعيش في سعادة و في أحد الأيام كان مستلقيا فرأى من نافذة قصره صديقه ديق و مازال يدوربذلك الوعاء الذي يجمع فيه أموال المتصدقين و المحسنين. فقال لحراسه ائتوني بذلك الرجل الذي يمشي في الشارع ، فلحق الحراس بديق و أحضروه أمام الملك الذي أمره بدوره بالجلوس بين يديه. رد ديق و هو خائف يرتجف " أيها الملك أنا رجل مسكين و لم أفعل شيئاً فلماذا قبض علي الحرس؟ وأنت ملك عادل لذلك أطلب من سيادتكم إطلاق سراحي".

رد عليه موقي باسماً " يا رجل لم يقبض عليك أحد لكنني أمرتهم بإحضارك ، فهل تعرف من أكون ؟" رد عليه ديق " أنت الملك و السلطان و إنك ملك عادل و لا أعرف عنك أكثر من ذلك". فقال له الملك " ألا تتذكر الرجل الذي كنت صاحبه لفترة طويلة و كنتما لا تفترقان هل نسيته؟" أجاب ديق متعجبا " أإنك أنت ؟ لقد شككت لوهلة بالصوت و كنت أقول لنفسي أين سمعت هذا الصوت من قبل؟ فمن إين لك كل هذا ؟! ".

أجابه الملك موجي " وجدت كل هذا في المكان الذي تركتني فيه آخر مرة" ، أجابه ديق " فهمت" ثم هرب خارجاً و لم ينتظر أي توضيحات أخرى. هرب ديق باتجاه البئر الذي أصبح مهجوراً و لم يعد أحد يشرب منه بعد تفجر المياه شمال المدينة فرمى بنفسه في البئر. غابت الشمس و حينما انتصف الليل اجتمعت الضباع الثلاثة كعادتها فوق البئر تتجاذب أطراف الحديث ، و تحدثوا أن الأمورالثلاثة التي تحدثوا عنها قد تم تنفيذها فلا بد أن أحدهم يسترق السمع أسفل البئر فأخذت الضباع تحثوا التراب على البئر حتى تدفن من يستمع إلى حديثها. و لم يخرج ديق من البئر الذي أصبح قبره بعدما وقع في الحفرة التي أرادها لصديقه.

خاتمة:

يقول المثل الصومالي : daacadi ma hungowdo ، و معناه قريب من " لا يخسر  الإنسان المخلص الصادق" وهناك بيت من الشعر أحب ترديده دائما و أتخذه شعاراً " من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله و الناس" ، و خلاصة قصتنا هذه و حكمتها أن تعامل الناس بحسن نية و تتخذ الإخلاص و الصدق سبيلاً في عملك و صداقتك و زواجك و في عمل الخير. لا تنتظر مردوداً إلا من الله و لو ضاع الإخلاص و الصدق بين الناس فلن يضيع مع الله فاجعل عملك خالصاً لوجهه و صف النية في سبيله يرزقك و يجازيك من حيث لا تحتسب و لا يخطر لك على بال.