الاثنين، 18 نوفمبر 2013

اختبــار كــاهن





سمعت بهذه القصة للمرة الأولى من العالم الروسي الخبير في التاريخ و الأدب الصومالي السيد Georgi kapchits , و ذلك خلال معرض الكتاب في هرجيسا صيف العام قبل الماضي. و قد قصها علينا بلغة صومالية فصيحة, و كان مما قاله العالم الروسي أن الأديب موسى حاجي إسماعيل جلال –رحمه الله- لو لم يترك لنا من إرثه سوى هذه القصة لكفى. و هنا سأحاول أن أنقل تلكم القصة إلى العربية بما يتناسب مع المستمع العربي. بطبيعة الحال لن أستطيع أن التقط جمال القصة بالكامل و خاصة الملحمات الشعرية داخل القصة. لكن سأسدد و أقارب علني أفلح في نقل جزء من سحر و رونق هذه القصة التي تعتبر من أجمل القصص في تراث الأدب الصومالي.

ملاحظة: ترددت كثيراً في نشر هذه الترجمة لهذه القصة الجميلة و الطويلة نوعا ما لأنها حقيقة أخذت مني الكثير من الجهد و الوقت لنقلها إلى العربية و تستحق أن توضع في مكان يليق بها و بجمالها, لكن ما هي فائدة الجمال إن لم تبصره عين؟. ربما الكثيرون لن يقدروا أو يشعروا بجمال القصة لكن يكفيني أن يستمتع بها بعضهم و يفهم قيمتها الأدبية. القصة لفرط طولها سأقسمها إلى عدة أجزاء غالبا ثلاثة أجزاء و اليوم سأحكي لكم الجزء الأول من القصة. 


إليكم القصة:

كان يا ما كان في قديم الزمان, كان هناك كاهن يعيش في قرية من القرى و كان يجيد التكهن بالحظوظ بإستعمال الخرز و هي حجارة تقطع بأشكال متعددة و ربما تعقد على شكل سبحة قد تكون من الزمرد أو الياقوت أو العقيق السليماني, يقال أنها تجلب الحظ و يعتقد البعض أنه يسكنها أرواح من الجن. كان الجميع يحب هذا الكاهن و إذا عرض لأحدهم عارض كان يذهب إليه ليخبره بحظوظه و مستقبله و كان بارعاً في ذلك, كان الجميع يأتيه من كل حدب و صوب لإستشارته فذاع صيته في جميع أرجاء البلاد.

وصلت أخبار الكاهن إلى سلطان البلد فقال السلطان في نفسه " يجب أن أتحقق بنفسي من مهارة هذا الكاهن, هل هو فعلاً بارع كما يقال". و في يوم من الأيام و بينما ضيوف السلطان يتبادلون أطراف الحديث أتوا على ذكر الكاهن و امتدحوا قدراته, فقال لهم السلطان " لا أعتقد أن هذا الكاهن يستطيع القيام بأي شي غير اعتيادي أو مميز" فرد عليه جمعٌ من الحضور " يا أيها السلطان, إنه لم يُرى رجلٌ أكثر منه حكمةً ". قال السلطان " أحضروه لي و سأسأله سؤالاً إن جاوب عليه فسأسلم بأنه رجلٌ حكيم بالفعل, و سأجازيه بجائزة عظيمة. و إن لم يجاوب فسأثبت أنه مخادع و سأقطع رأسه جزاءاً له".

انزعج الناس و أبدوا قلقهم من عرض السلطان فقالوا " يا أيها السلطان, إنه رجل طيب جداً لا تقطع رأسه", فرد عليهم السلطان " احضروه لي حالاً لديكم مهلة سبعة أيام حتى تحضروه لي".  فخرج الناس بحثاً عن الكاهن, وبعد مدة وجده بعض الذين ذهبوا للبحث عنه و احضروه إلى مجلس السلطان. و الذي بدوره عقد مجلساً ضم علية القوم و أعيان الناس, فقال السلطان للكاهن " ألست أنت الذي أقنع الناس بقدراته الخارقة؟" أحس الكاهن بتوتر الأجواء و قال لنفسه هذا الأمر لا خير لي فيه. فرد على السلطان و قال " لا لست أنا ذلك الشخص" فضحك السلطان و قال له " توقف عن هذا و اعترف إنهم في جميع أرجاء البلاد يتحدثون عنك و يقولون أنك أكثر الناس حكمة"  إذا كان هذا الكلام صحيحا فجاوبني على السؤال الذي سأسألك إياه.

فاسقط في يد الكاهن و تصلب في مكانه محرجا لا يرد بكلمة واحدة , فقال الحضور " يا أيها السلطان إننا نعرف هذا الرجل إنه حكيمٌ بحق, اسأله ما تشاء فسوف يجيبك" فغضب السلطان و قال للكاهن " لماذا تجيب على أسئلة الناس و ترفض الجواب على سؤالي؟ ". فرد الكاهن " ليس الأمر هكذا أيها السلطان و لكنني لا أمتلك أية حكمة", فأمره السلطان و قال له " افعل ما تشاء استعمل الخرز أو الورق المهم أن تخبرني ما هو مستقبل قبيلتنا خلال العام القادم و ماذا سيحدث لنا! و إنه من مصلحتك أن تتنبأ بما سيحدث. فإذا كانت نبؤتك صحيحة أمرت لك بقطعان من الماشية كجائزة, أما إذا كانت نبؤتك خاطئة فسآمر بفصل رأسك عن جسدك".

أخرج الكاهن الخرز و أصبح يقلبه يمنيا و شمالاً , وبهذه الطريقة قام بالحسابات لفترة طويلة و لكن في النهاية تنبأت الخرزات بمصير مأساوي للكاهن. و تحت وطأة الخوف رمى بالخرزات في الأرض و بدأ بالصراخ و اللعن, ثم ركض إلى الخرز و أخذ يعض بعض حباتها و هو يصرخ و يلعن ثم أخرج خنجره و قطع أحد أصابعه فتناثر الدم في المكان. استغرب الحضور مما حدث و قال بعضهم " لقد جن الرجل, انتبهوا من خنجره". أمره السلطان بالحديث و إخبارهم بما رءآه, فقال الكاهن " يا أيها السلطان لا أستطيع أن أخبرك بما تنبأت به الخرزات فهي قد تنبأت بسوء حظ و مصيبة لي, لكنني استطعت أن أبطل هذه النبؤة بما فعلته قبل قليل".
فقال له السلطان " إذاً أعد المحاولة مرة أخرة ", أخذ الكاهن الخرز مرة أخرى و عرضه على السلطان ثم بدأ في الحسابات مرة أخرى و أعاد ترتيب الخرز. فعرضها على السلطان و سأله السلطان " وماذا تعني هذه الخرزات؟ " و بدافع من الخوف و التوتر في تلك اللحظة أوقع الكاهن الخرز فتناثر في الأرض . فقال السلطان متعجبا " ماذا حدث ؟ "  و الكاهن يقف أمامه فاغراً فاه دون أن يتحرك أو أن ينبس ببنت شفة. فأمره السلطان أن يكشف لهم ماذا رأى في المستقبل, فأخذ الكاهن يغمغم و يتمتم بكلام غير واضح " سلطان ... اوه سلطان .." و لما رآه السلطان بهذه الحالة توجه نحوه مطالبا إياه بالإفصاح قائلاً " قل شيئاً بحق السماء " فرد الكاهن " أوه سلطان لقد خانتني مهاراتي و براعتي المعتادة".

و مع رد الكاهن غضب السلطان غضباً شديداً و قال مهدداً الكاهن " سأعطيك مهلة سبعة أيام للجواب على سؤالي و إن لم أجد الجواب فلا تلومن إلا نفسك , هيا دعوه ينصرف" ارتاح السلطان على عرشه و أذن للجموع بالإنصراف. انصرف الكاهن و لما أبتعد عن أعين الناس أخرج خرزه مرة أخرى في محاولة جادة لمعرفة ما يحمله مستقبل القبيلة العام القادم و في كل مرة يكون ناتج حساباته هراءً لا معنى له.و لما يئس من معرفة الجواب ألقى بالخرز بعيداً و بدأ بلعن التكهن و العرافة و أصبح يهذي و يكلم نفسه و يجئ ذهاباً و إياباً  يفكر و يتدبر أمره. و بعد مدة سيطر على انفعاله و قال لنفسه " أيها الأحمق تمالك نفسك و تغلب على مخاوفك بعدها انصرف للتنبؤ بالطريقة المثالية و الصحيحة".

تمالك الكاهن نفسه أخيرا و جلس بهدوء و تركيز و أخذ في نثر الخرز من جديد, لكن وا أسفاه مرة أخرى ظهرت له نتائج لا معنى لها مرةً تلو الأخرى. احتار الكاهن و أدرك أن الأمور تتجه نحو الأسوء و سأل نفسه " ماذا أستطيع أن أقوم به؟ " فكر كثيراً و فكر ثم وقف على قدميه و قال " يا رب أقسم أنني لن أنام أو آكل أو أتكلم مع أحد و لن أذهب مرة أخرى بالقرب من الناس حتى أجد الجواب على السؤال و أجد حلاً للمعضلة التي وقعت فيها ". توغل الكاهن في منطقة شبه صحراوية مغطاة بالشجيرات الصغيرة مبتعدا عن الناس, و بين كل فترة و أخرى يجلس تحت شجرة و يرمي بخرزه محاولا إيجاد الجواب للسؤال لكن كل محاولاته باءت بالفشل. حتى أنه حاول الإستقراء من أوراق الأشجار التي قطعها و لم يجد لديها جوابا هي الأخرى, هنا أسقط في يده و جلس تحت شجرة كبيرة فارشاً سجادته منهكاً مستسلماً لقدره و قال " لا فائدة إذا كان الموت مصيري فسأنتظره تحت هذه الشجرة".

قضى الكاهن عدة أيام تحت الشجرة و كل نهار و مساء يجرب استقراء الخرز لعل موهبته في التنبؤ تعود إليه و لكن باءت جميع المحاولات بالفشل. لم يتبقى سوى يوم واحد على مهلة السلطان و الكاهن بعدما استنفذ كل محاولاته و قدراته من أجل معرفة الإجابة كان قد قرر أن ينتظر الموت تحت الشجرة بدلاً من أن يعود للسلطان و يُقطع رأسه أمام الناس. فجأة زحف ثعبان ضخم من تحت جذور الشجرة التي كان يجلس الكاهن تحت ظلها في الايام الماضية, قفز الكاهن على رجليه و التقط رمحه متجهاً إلى الجهة الأخرى مقابل الثعبان الضخم و هو متحفز و قلق من هذا المخلوق الضخم. لكن الثعبان الضخم التف حول نفسه مثل الكرة مبرزاً رأسه فنطق الثعبان متحدثاً إلى الكاهن " لماذا هربت مني ؟ " فرد عليه الكاهن " لقد أخفتني و يجب أن أكون على حذرٍ منك" فقال له الثعبان " لا تخف مني أنا لا أريد أذيتك لكنني أود فقط بالتحدث إليك" الكاهن لم يستوعب و يفهم ما قاله الثعبان و مسك رأسه متعجباً من محادثة ثعبان له بلغة البشر و هو يقول يقول " أنا لا أصدقك في حياتي لم أرى ثعباناً يتحدث بلغة البشر". ضحك الثعبان و قال له " ربما لم ترى ثعباناً يتكلم من قبل و لكنك ترى واحداً الآن", فرد الكاهن " أنا لا أثق بك" فقال له الثعبان " إذا دعنا نتفق" صمت الكاهن برهة من الزمن ثم وافق على عرض الثعبان بعقد الإتفاق. في هذه الأثناء أخرج الثعباث ذيله فرسم بطرفه دائرة كبيرة استقر في وسطها و بعدها أقسم للكاهن مؤمنا إياه من أي أذى " والله و بالله و تالله أقسم بالرب أنني لن أتسبب لك بأي ضرر او أذى مالم تجبرني على ذلك" و بعدما أقسمت الدابة هذا القسم خرجت من الدائرة.

 وقف الكاهن داخل الدائرة بدوره لكي يحلف هو الآخر مؤمنا الثعبان من أي شر أو أذى, بعدها تحدثا بشكل ودي عن أمور مختلفة و تبادلا أطراف الحديث. بعدها سأل الثعبان الكاهن قائلاً " لماذا أتيت إلى هذه الأرض؟ عن ماذا تبحث؟ " فأجابه الكاهن " أنا كاهن عراف و قد أمرني السلطان بأن أخبره بمصير القبيلة و البلد خلال العام القادم, لكن مهارتي و قدراتي خانتني و لم أتوصل إلى جواب و أتيت هنا للتبصر و محاولاً الوصول إلى جواب " فقال له الثعبان " وهل و جدت الجواب الذي تبحث عنه؟ " أجابه الكاهن " لا لم أجده", حينها قال له الثعبان " و ماذا لو أعطيتك الجواب ؟ ماذا من الممكن أن تقدمه لي كجائزة؟ ". رد الكاهن متلهفاً لسماع الجواب " اطلب ما شئت", فسأله الثعبان " بماذا وعدك السلطان إذا أجبت على سؤاله إجابةً صحيحة؟ " فهتف الكاهن " أقسم بالله العظيم , بأن كل ما سأحصل عليه سيكون لك فقط أنقذني من الورطة التي وقعت بها" . فرد عليه الثعبان " و لماذا كل شئ؟ يكفيني نصف ما ستحصل عليه, نصفٌ لك و النصف الآخر لي".


 سارع الكاهن بالموافقة على عرض الأفعى ,فقالت له الأفعى " انقل إلى السلطان هذه الرسالة :


لقد تكشفت لي أسرار المستقبل القادم فاسمتع إلى ما سأقوله بإنصات و تمعن:

مرت ثماني سنوات على فتنة إبليس زعيم الشياطين

و حان وقت انبعاث الجن و نشرهم لأعمالهم الشريرة

هناك علامات تشير إلى الشر القادم من بعيد

زوجات يغطين رؤسهن بوشاح الحداد

ذبح رجال شجعان و نهب قطعان الماشية

النسور تنهش جثث المحاربين الأقوياء

كوارث و مصائب!

الرجال مشغولون بالإستعداد للمعارك

رماحهم الصدئة ستصقل من جديد

الخيول سيتم تسمينها و تٌسخر للحرب

سواء أغمضت عينك للنوم أو فررت

و سواء تأهبت بسل سيفك من غمده

قريباً ستأتي أفواج شرسة و حاسمة

ستبارزونهم و تلقونهم أمام الغبار

و ستبكون إلى الرب في رعب و خشوع"

بعدما استمع الكاهن إلى شعر الأفعى المنذر بالحروب و الكوارث, شكره على ذلك و انطلق مسرعا إلى السلطان ليخبره بالنبؤة. في هذه الأثناء كان اليوم السابع و الأخير من المهلة الممنوحة للكاهن و جميع أهل البلدة ينتظرون قدومه لسماع ما لديه. قال البعض " إن الوقت يكاد ينفذ و لم يأت الكاهن بعد أين هو يا ترى؟ " فرد عليهم البعض الآخر " على الأرجح لم يجد الجواب و هو يختبئ في مكان ما ", و قال آخرون " صحيح اليوم هو آخر يوم من المهلة دعونا ننتظر حتى المساء". و مع اقتراب عصر اليوم السابع رأى الناس من بعيد غباراً فتسآءلوا " يا ترى من يكون القادم و ماذا يحمل؟ " ثم رأو رجلاً شاحبا يركض و يغني أبياتاً من الشعر, لقد كان الكاهن و قد تبدل حاله و انكمشت شفتاه و تشققت و هزل جسده و زاغت عيناه, فلا عجب  فهو لم يذق طعاماً أو يهنأ بنوم منذ سبعة أيام.

أما الآن أدرك الراوي الصباح فسكت عن الكلام المباح, نكمل لكم بقية القصة  لاحقاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق