في نهاية القرن التاسع عشر كانت صوماليلاند أشهر منطقة لرحلات القنص و
السفاري في شرق أفريقيا قبل أن تشتهر كينيا أو تنجانيقا أو أوغندا بذلك، حيث كانت
تحوى مساحة 67 ألف ميل مربع من الأحراش و أراضي السافانا الغنية بالأسود و الحياة
البرية. و مثلت هذه المناطق بقعة مفضلة للبريطانيين لممارسة هواية الصيد التي
ابتدأوها في الهند بصيد النمور البرية و الخنزير الهندي، حيث استبدلوهما بالأسد و
الخنزيز البري الأفريقي ذي الأنياب الطويلة.
ركبت سفينة بخارية تجارية من عدن متجها إلى سواحل صوماليلاند و بعد أن
سلكنا طريقاً ملتوياً وصلنا إلى الميناء القديم في زيلع، ثم نزلنا على الشاطئ و
كان كل شي كما تركته قبل عدة سنوات حيث قضيت خمسة أشهر في هذا المنفى الساحر و
اللطيف.تذكرت رحلات صيد الخنازير البرية بالرماح في البراري المعشبة حول المدينة. فعلا لم ألحظ أي تغيير في المدينة ... الهدوء الحالم .. أمواج البحرالهادئة التي تغسل
الشاطئ باستمرار.. السماء الزرقاء الصافية , تلك المنازل المعدودة والمبنية من صخور
مرجانية بيضاء تعكس أشعة الشمس الساطعة و هي مرتفعة عن أكواخ الصومالين التي
تحيط بها.
القنصلية تواجه البحر و أمامها يرفرف العلم الإنجليزي، لم يكن هناك أي
تغير. بل كان هناك تغير فعلمنا يرفرف وحيداً، أتذكر حينما كان يرفرف بجانبه العلم
الفرنسي و العلم المصري أيضاً. حيث تم إخراج الفصائل الفرنسية المدعومة من القبائل
الصومالية بعد المناوشات مع الانجليز و تم إخلائهم من المدينة، الآن هناك هدوء و سلام في منطقة زيلع. ابحرنا بعد
ذلك جنوبا باتجاه "بلحار" هنا يبدو الخط الساحلي و كأنه يمتد إلى ما لا
نهاية، تستطيع أن ترى خطاً متصلاً من الرمال الصفراء تتشابك معها رغوة بيضاء قادمة
من الخليج. بلحار عبارة عن مستوطنة تجارية خاصة بالصوماليين حصراً تتكون من أكواخ
الصوماليين على نطاق واسع، و مع هذا البحر المتألق يظهر في الأفق من جهة اليابسة
أحراش و شجيرات تبدو كضباب أصفر قاتم على رؤس المرتفعات المحيطة.
إنها منطقة برية موحشة و فيها تاريخ متوحش كذلك فقد تدمرت قبل سنوات
بالحريق و الكوليرا و راح الكثير من سكانها ضحية للقبائل المتعطشة للدماء في
الحروب. في اليوم الثالث وصلنا إلى بربرة و كنت سعيداً لترك هذه السفينة ذات
الطعام السئ، نزلنا إلى بربرة و سط حشود صاخبة من الأهالي.فقط خلال يومين حافلين
في بربرة استطعت أن أنسق ما يعرف محليا باسم " قافلة" مكونة من عشرة
جمال و اثنا عشر صوماليا سبعة منهم سلحتهم بالبنادق وحماران كان الهدف منهما أن
يكونا طعمين لإصطياد الأسود.
إلى جانب البضاعة التي اشتريتها بوزن ألف رطل من الرز
و نصف ذلك من التمر و مائة رطل من السمن بما يكفي لرحلة شهرين. كان يجب أن أفكر
بأمور أخرى كذلك مثل: السرج على ظهر الجمال، التباكو (الدخان)، ملابس كهدايا، أواني
الطبخ و أحذية للرجال، و فؤوس لصنع الزريبة، براميل مياه و الحبال. وأشياء
كثيرة ساعدني على توفيرها التاجر العربي محمد هندي و هو رجل صادق و أمين و آخيرا
اشتريت مُهرة حبشية بثمن باهظ أنهيت معها تجهيزاتي للرحلة.
في ظهر اليوم التالي من بين الحزم و الأمتعة التي تظهر عليها الفوضى و
الإبل ذات المزاج السئ التي تشتكى بصوت عال ممتزج مع صرخات الإبتهاج المزعجة للصوماليين،
كانت القافلة جاهزة و على أهبة الإستعداد للسفر في زمن قياسي. تحركنا قبل الغروب
بقليل في محاذاة الساحل الممتد عبر الأفق. بعد مدة وصلنا إلى تلال منخفضة خارج
المدينة كانت هذه التلال الصفراء تمتد في الأفق، كانت تبدو أرضاً صعبة و خالية عدا
عن بعض الشجيرات النحيلة. كانت تبدو منطقة خالية من الحياة ما عدا بعض الغزلان
التي تخرج من تحت ظلال الشجيرات والتي تحدق فينا من مسافة قريبة مغرية لاطلاق
النار عليها أو ترى ما يشبه السناجب الأرضية و هي تختفي في فتحات لا تعد و لا
تحصى في الأرض. كانت المسيرة طويلة والجو حار والصوماليون الذين كانوا بصحبتي
كدليل كانوا راجلين على أقدامهم و مع الوقت أصبحت أفضل أن أمشي أنا أيضاً بدلاً من
الجلوس على ظهر الدابة. و كان من الممتع رؤية خط البحر الأزرق وهو يختفى في الأفق من
ورائنا.
وصلنا إلى أول وادي في طريقنا و استرحنا عدة ساعات ثم أكملنا المسير نحو
وادي آخر يبعد نحو ثمانية أميال حيث خيمنا ليلاً. كانت نيتي أن نمضي بأسرع ما
يمكن باتجاه هضبة " الهود" التي تمتد في عمق صوماليلاند. كانت أقرب حافة
للهضبة تبعد عن المنطقة التي كنت فيها مسافة 150 ميلاً، أكملنا المسير في فجر
اليوم التالي ثم أخذنا استراحة قصيرة في الظهر ليرتاح الرجال و ترتاح الدواب التي
معنا. بعد ذلك أصبحنا نسير في طلعات مضاعفة يومياً، حيث تحسنت طبيعة المنطقة بعد
أيام من المسير حيث كانت مشجرة بشكل جيد وسط تلال بنية متدرجة تنمو عليها أشجار
الميموزا التي تشبه المظلات. كان أمامنا جبل كف الأسد (قعن – لباح) و هي أكثر منطقة
غزيرة بالأشجار في سلسلة جبال قوليس التي تمتد على يسارنا.
المسار الصخري الذي اتبعناه قادنا عبر الوديان المنتشرة ذات الرمال
البيضاء و بين الصخور و الحدود السميكة من الأشجار و غابات الشجيرات حيث ترى منظراً من
أجمل المناظر الطبيعية. الزواحف من جميع الأنواع تراها في المنطقة و الأشجار من
النخيل إلى شجرة الميموزا وأعداد كبيرة من الطيور المتنوعة بعضها يحمل ريشاً
رائعاً ...تبدوا غابة مليئة بالحياة. هنا وهناك ترى أودية خلابة وتشاهد مناطق لتجمع
القصب الأخضر الداكن حول بعض المستنقعات المائية محاطة بأعشاب خضراء على أطراف الأودية
ذات الرمال البيضاء.
الخروج في نزهة ليلية في
الوادي الهادئ بمعية بندقيتي كان له طعم آخر بالنسبة لي. بدأ سكون متزايد يتسلل
إلى الغابة مع غروب الشمس لا يقطعه سوى أصوات مفاجئة لبعض الطيور داخل الشجيرات أو عويل ابن آوى في
الجوار. في مثل هذه الساعة قد يجد المرء في طريقه مجموعة مختلفة من الظباء أو
الخانزير البرية أو الفهود أو الضباع، حتى ملك الغابة قد يتم مصادفته في الوادي
في مثل هذا التوقيت. بعد عدة أيام أصبح الجو بارداً و أظلتنا السحب الرعدية
الممطرة في جبل كف الأسد (قعن- لباح) و جرت الأخاديد بالمياه العذبة. علمت عن موسم الأمطار
الذي ابتدأ و الذي كنت متحمساً له لأنه بدونه لن نستطيع الصيد في
"الهود". و مع المشي في محاذاة الجبل و على بعد أميال في اليوم الرابع قطعنا مسافة 90 ميلاً منذ بدأ الرحلة و أنا أنظر من رائي القمة العظيمة لجبل
"قعن لباح".
دخلنا في منطقة منخفض جبلي و من بعيد بدت قمتين مدورتين لجبلين توأمين تذكرني بالبلاد الغامضة في رواية كنوز الملك سليمان للكاتب هنري رايدر، واسم
الجبلين باللغة الصومالية " ناسا هبلود" بمعنى ثديي الفتاة. الآن أصبحت
ترى قطعان من أنواع متنوعة من الغزلان و الظباء منها غزلان طويلة الرقبة تعرف
بالغرنوق و ديرو و أول و كانوا يرعون في مرمى النيران. بعد مسيرتين طويلتين وصلنا
إلى قمة جبلي "ناسا هبلود"، الآن دخلنا عميقاً في البلد و أصبحنا نسمع أخبار
متكررة عن أسود في المنطقة من الصوماليين الذين نقابلهم. هذه الأخبار أغرتني
لتحويل المسار والبحث عن أسود المنطقة لكنني استمريت في المخطط للتوجه إلى
"الهود".
يتبع في الجزء القادم ..