طلب السلطان رؤية الكاهن فشكره على نبؤته التي
أنقذتهم من آثار الجفاف و أعطاه قطعانا عظيمة من الماشية
مثل المرة السابقة. فرح الكاهن و ابتهج بالجائزة و انطلق بها إلى مسكنه و في طريقه
تذكر وعده للأفعى فأوقف حركة قطعان الماشية ثم جلس و أخذ يرسم بعصى على الرمال.
جلس الكاهن و فكر مدة طويلة ثم رفع رأسه و نظر إلى الماشية حوله و هي ترعى حوله,
فساوره بعض الطمع و قال لنفسه " هل ستطعم الأفعى كل هذه الحيوانات الجميلة ؟؟
و هي مستلقية في الظل, يالك من أحمق و ابن أحمق". لكنه تمالك نفسه فجأة و فكر
" حسناً, ولكنك قد قطعت عهداً للأفعى ! و عدم الوفاء بالعهود يعتبر مثل عدم
الإيمان بالله كما يقول المثل الصومالي , ماذا أفعل يا ترى؟ ". تدارك
الكاهن نفسه و قال بحزم " أحلف باسم الرب أن الجِمال و بقية الماشية من نصيبي
و سآخذهم لنفسي مهما حدث". و مضى بالماشية و لم يفي بوعده للأفعى مرة أخرى.
و في يوم من الأيام زار رسول السلطان الكاهن و
الجفاف مازال مستعراً فقال له " يأمرك السلطان أن تأتيه بسرعة" , أصاب
القلق الكاهن و تسآل ماذا يريد منه السلطان هذه المرة يا ترى؟ , لكن لم يجرؤ على
مخالفة أمر السلطان فذهب مع الرسول إلى مجلس السلطان الذي كان يجلس بمعية
مستشاريه. جلس الكاهن في ضيافة السلطان و تبادلا أطراف الحديث, ثم قال السلطان
للكاهن " لقد أرسلت في طلبك لتقوم لنا بأمر سهل بالنسبة لك و مهم لنا في نفس
الوقت" فرد الكاهن و نبرة الخوف تعتلي صوته " ماذا تريد مني أيها
السلطان؟ " . فقال له السلطان " هذه السنة و السنة الماضية أنقذتنا فعلاً
من العديد من الكوارث, كثير من القبائل و التي لم يكن لديها علم بنبؤتك هلكت إما
في حروب العام الماضي أو جفاف هذا العام. نشكرك على جهودك و نشكر الله على حفظه
لنا. لذلك نود أن تتنبأ لنا مرة أخرى بما سنواجهه العام القادم".
قفز الكاهن من مقعده ثم صرخ " ماذا؟ تريدني
أن أتنبأ بماذا ؟ " أصابه الذعر الشديد حتى أنه فقد وعيه و سقط مغشياً على
الأرض. وقف السلطان في نوبة من الغضب و قال " كلما طلبت منه أن يساعدنا
يتظاهر بالغضب و عدم الرضى !! " رفع السلطان سوطه في الهواء متجهاً بغضب نحو
الكاهن لتأديبه لكن الحضور أوقفوه و أخذوا منه السوط. ثم قال السلطان ممتعضاً
" حينما يعود هذا الوغد إلى وعيه أخبروه أنه إن لم يأتني بالجواب خلال ثلاثة
أيام سأعاجله بالسيف و أقطع رأسه". وقف الناس طويلاً فوق رأس الكاهن و حينما
عاد لوعيه أخبروه بكلام السلطان و تهديده, أدرك أن الأمر في غاية السوء و حاول أن
يتجنب الذهاب إلى الأفعى لكنه أيقن بأن الموت مصيره لا محالة إن لم يفعل.
انطلق الكاهن مسرعاً لإيجاد الثعبان و حينما
اقترب من الشجرة صادفه الثعبان و قال له " مرحباً , هل تبحث عني يا صديقي (
قالها بسخرية واضحة و هو يضحك) ", فرد الكاهن " يا إلهي إنه أنت" ,
فسأله الثعبان ماذا تريد مني ؟. قال الكاهن " أواجه نفس المشكلة و أريدك أن
تخرجني من الورطة التي وقعت فيها من جديد", فقال له الثعبان:
أخبر السلطان الذي أرسلك هنا
ستحوم الغيوم في السماء مرة أخرى
لم تعد قاحلة فهي تحمل أمطار درر (نجم لامع)
أخبره أنه قريبا في منتصف الليل
سيُرى البرق بوضوح ساطع
و ستهطل الأمطار الغزيرة
تماماً كما كانت تهطل في السابق
أخبره أن الأرض الجرداء ستغتسل بالمياه
أخبره أن المواشي لن تعاني بعد اليوم
للذهاب مسافات بعيدة للحصول على المياه
و أخبره أن السيول ستنهمر مثل السحالي
في جميع أرجــــاء الأودية الجــــافة
العشب الطري سينبت في المراعي
و الماشية ضرعها يمتلئ بالحليب
و أخبره أن الزوجات التي هُجرن
في أشهر الجفاف الصعبة
سيبنون أكواخاً واسعة كبيت الحَجر
الآن تستطيع أن تخلع ملابسها المبتذلة
و تلبس لبساً جديداً من الحرير
مواقد البخور تظهر من الزوايا المظلمة
و يفرش حصير النوم الدافئ و المريح
فزوجها لم يفكر في الحب خلال موسم الجفاف
أما الآن و قد زال الشحوب و ذهبت النحافة
فإنه سيأتي مرة أخرى داخل الكوخ
الآن يستطيع اختيار الطعام الذي يريد
لم يعد مدفوعاً بالجوع وحده
مراراًو تكراراً بكلمات لطيفة سيطالبُ
بأكل المزيد ثم المزيد ثم المزيد
و زوجته تأتي و تذهب لجلب هذا الصحن أو ذاك
و كلما مرت جيئة و ذهاباً بالقرب منه
يعود شباب الحب الذي قد شاخ بينهما
و في احتفالاتهم و بحثهم عن بركة الأبناء
سيقع حمل أطفال مشرقين مثل الصواعق
أخبر السلطان كذلك أن الشباب الصغار
لن يبقوا عزاباً لفترة طويلة
سيتم زواجهم بشكل لائق و جميل
الفتيات اللآتي كانوا يتوقون إليهن
و يعرضون عليهن الركوب و الرقص
سيرفهون عنهم و سيحتفون بهم
و أخبره أخيراً أن من أراد شغل ذهنه
بالصلاة و الدعاء فسيكون حرأ في ذلك"
انطلق الكاهن مسرعاً إلى السلطان عقب سماعه
للقصيدة فألقاها عليه و شكره السلطان و الناس على ذلك, و قبل المغيب و في الأفق
البعيد ظهرت غيمة صغيرة قادمةً من جهة الشرق. بكى الناس و قالوا " إنها سحابة
من الله " و مع ذلك لم يعتقد أحدٌ منهم أن هذه السحابة الصغيرة ستمطر, لكن
بمجرد أن تم إدخال الماشية إلى الحظائر لمع البرق من جهة الشرق. الجميع أصبح
سعيداً و كانت النساء تُزغردن بمرح, الحمدلله لم يعد هناك ما يدعوا للقلق بعد
الآن. ما هو إلا وقت قصير حتى قال أحدهم " الحمدلله إن السحاب فوقنا بالفعل
", و قال آخر " دعونا نحفر قنوات لتصريف المياه و نحمى الماشية الهزيلة
داخل الحظائر" أوى الناس إلى منازلهم بعدما حفروا حولها القنوات لحفظ المياه
ثم خلدوا إلى النوم.
بحمدلله لم يمضي ربع الليل حتى بدأت الأمطار
بالهطول, و بعدما هطلت كمية كافية و مناسبة من الأمطار لارتواء الأرض توقف المطر.
و بعد توقف المطر أُخرجت المواشي حتى تشرب من البرك و خرج الناس لتخزين المياه,
استأنف هطول الأمطار في الفجر و بعدها تم إخراج الماشية إلى المراعي. أمطرت السماء
أربعة أيامٍ متتالية و جميع الحيوانات الجمال و الغنم و الماعز شربوا حتى امتلئت
بطونهم, و حتى التي جف ضرعها بدأت تدر الحليب من جديد و شرب الناس ما طاب لهم من
الحليب.
في منتصف الربيع جمع السلطان أفراد القبيلة في
اجتماع موسع و حل كل القضايا العالقة خلال فترة الجفاف, ثم أمر بإحضار الكاهن و
أمر بإعطاءه ماشية من كل نوع. فقال الكاهن في نفسه " فليشهد الله علي لقد أنقذ
الثعبان حياتي ثلاثة مرات و قد خنته مرتين, هذه المرة يجب أن أحافظ على الوعد و أسلم
كل ما كسبته اليوم إليه ". و بالفعل ساق جميع القطعان التي كسبها إلى الثعبان
و قال له " يا أيها الثعبان أريد أن أقول لك ثلاثة أشياء, أولاً: لقد أنقذتني
في مرتين سابقتين و كل مرة كنت أكافئ إحسانك بالنكران لكنني اليوم أتوب من فعلتي,
هذه القطعان استلمتها اليوم خذها جميعاً و سامحني.ثانياً: أرجوك و أتوسل إليك أن
نصبح أصدقاء, و أخيرا: بما أن حكمتك بلا حدود أخبريني عن الدنيا و الحياة ؟ "
رد عليه الثعبان " بالنسبة للصداقة فأنا لا
أصادق الناس أو كائناً من كان, أنا إما أن أؤذي الرجل أو أساعده حسب الغرض الذي
أرسلتُ من أجله. و بالنسبة للعفو فأنا سامحتك و عفوت عنك ,أما الحيوانات التي
أحضرتها لي فأنا أعيدها لك فليس لي بها حاجة و اعتبرني قبلت هديتك. الآن نعود
لسؤالك عن الدنيا و الحياة فإنني أخبرك بالآتي:
نعم هناك الدنيا لكن الحياة ليست منفصلةً عنها,
حياتكم كما تسمونها تتشكل تبعاً لظروف الدنيا من حولكم. لقد خلق الله العديد من
الأنماط في هذه الدنيا و هذه الأنماط هي القواعد التي تحكم حياة البشر. فحينما
يكون نمط الحرب هو النمط السائد يكون كل الناس في عدواة مع بعضهم البعض في ذلك
الزمن , و هكذا كان في الحرب الماضية حين سللت سيفك لتقتلني حتى بعد أن ساعدتك و
قلت في نفسك " دعني أقطع رأسه !!!".
أيضاً في زمن الجفاف و القحط لا يوجد رجل
سخي تجاه الآخرين,لذلك فررت و احتفظت بجميع قطعان الماشية لنفسك و لم تعطني نصيبي
من جائزة السلطان.لكن حينما يكون النمط هو الرخاء و الإزدهار من هو الرجل البخيل
الممتلئ كراهية تجاه الآخرين؟! لذلك أتيت إلى عارضاً علىَ كل ما تملك و لم تحتفظ
حتى بحيوان واحد لنفسك!. في كل مرة كان النمط هو الحاكم و لست أنت و هذا اضطرك
للقيام بما قمت به.
الآن سأخبرك بمن أكون : أنا لست أفعى لكنني
القدر و النصيب و لن تراني بعد اليوم, وداعاً.
و بهذا يا سادة يا كرام وصلنا إلى نهاية قصة
الكاهن الذي اختبر ثلاثة مرات. آمل أن تكونوا قد استفدتم و استمتعتم بهذه القصة
الفريدة من نوعها في تراثنا الصومالي , كما يسعدنا سماع انطباعاتكم عن القصة بشكل
عام.
و هذا الفيديو للمتحدثين باللغة الصومالية,
سجلته للعالم و الخبير الروسي السيد Georgi kapchits و هو يحكي لنا القصة
بشكل مختصر باللغة الصومالية في معرض هرجيسا للكتاب:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق