الصفحات

الجمعة، 22 نوفمبر 2013

اثنان و اثنان




هناك حكم تناقلتها الأجيال الصومالية جيلا بعد جيل و من هذه الحكم ما يلي :

اثنان يستحسن و يليق بهم المشي أو التنقل الدؤوب
و اثنان يستحسن و يليق بهم القعود
و اثنان تستشعر قيمتهم في حياتهم
و اثنان تستشعر قيمتهم في موتهم
و اثنان يليق عليهما الصمت


أما 


الإثنان اللذان يليق عليهما المشي الدؤوب فهما المطر و العالم حتى تعم الرحمة و النفع أراضي واسعة.


و أما


الإثنان اللذان يستحسن و يليق بهم القعود و عدم الحركة فهما النار و الماء فإن تحركا عمت المصائب.


و أما


الإثنان اللذان تشعر بقيمتهم في حياتهم فهما الكريم و الشجاع


و أما


الاثنان اللذان تشعر بقميتهما في موتهم فهما الجبان و البخيل


و أما 


الاثنان اللذان يليق عليهما الصمت فهما الحمار و الأحمق


الخميس، 21 نوفمبر 2013

اختبــار كــاهن (الجزء الثالث و الأخير)


طلب السلطان رؤية الكاهن فشكره على نبؤته التي أنقذتهم  من آثار الجفاف و أعطاه قطعانا عظيمة من الماشية مثل المرة السابقة. فرح الكاهن و ابتهج بالجائزة و انطلق بها إلى مسكنه و في طريقه تذكر وعده للأفعى فأوقف حركة قطعان الماشية ثم جلس و أخذ يرسم بعصى على الرمال. جلس الكاهن و فكر مدة طويلة ثم رفع رأسه و نظر إلى الماشية حوله و هي ترعى حوله, فساوره بعض الطمع و قال لنفسه " هل ستطعم الأفعى كل هذه الحيوانات الجميلة ؟؟ و هي مستلقية في الظل, يالك من أحمق و ابن أحمق". لكنه تمالك نفسه فجأة و فكر " حسناً, ولكنك قد قطعت عهداً للأفعى ! و عدم الوفاء بالعهود يعتبر مثل عدم الإيمان بالله كما يقول المثل الصومالي , ماذا أفعل يا ترى؟ ".  تدارك الكاهن نفسه و قال بحزم " أحلف باسم الرب أن الجِمال و بقية الماشية من نصيبي و سآخذهم لنفسي مهما حدث". و مضى بالماشية و لم يفي بوعده للأفعى مرة أخرى.

و في يوم من الأيام زار رسول السلطان الكاهن و الجفاف مازال مستعراً فقال له " يأمرك السلطان أن تأتيه بسرعة" , أصاب القلق الكاهن و تسآل ماذا يريد منه السلطان هذه المرة يا ترى؟ , لكن لم يجرؤ على مخالفة أمر السلطان فذهب مع الرسول إلى مجلس السلطان الذي كان يجلس بمعية مستشاريه. جلس الكاهن في ضيافة السلطان و تبادلا أطراف الحديث, ثم قال السلطان للكاهن " لقد أرسلت في طلبك لتقوم لنا بأمر سهل بالنسبة لك و مهم لنا في نفس الوقت" فرد الكاهن و نبرة الخوف تعتلي صوته " ماذا تريد مني أيها السلطان؟ " . فقال له السلطان " هذه السنة و السنة الماضية أنقذتنا فعلاً من العديد من الكوارث, كثير من القبائل و التي لم يكن لديها علم بنبؤتك هلكت إما في حروب العام الماضي أو جفاف هذا العام. نشكرك على جهودك و نشكر الله على حفظه لنا. لذلك نود أن تتنبأ لنا مرة أخرى بما سنواجهه العام القادم".

قفز الكاهن من مقعده ثم صرخ " ماذا؟ تريدني أن أتنبأ بماذا ؟ " أصابه الذعر الشديد حتى أنه فقد وعيه و سقط مغشياً على الأرض. وقف السلطان في نوبة من الغضب و قال " كلما طلبت منه أن يساعدنا يتظاهر بالغضب و عدم الرضى !! " رفع السلطان سوطه في الهواء متجهاً بغضب نحو الكاهن لتأديبه لكن الحضور أوقفوه و أخذوا منه السوط. ثم قال السلطان ممتعضاً " حينما يعود هذا الوغد إلى وعيه أخبروه أنه إن لم يأتني بالجواب خلال ثلاثة أيام سأعاجله بالسيف و أقطع رأسه". وقف الناس طويلاً فوق رأس الكاهن و حينما عاد لوعيه أخبروه بكلام السلطان و تهديده, أدرك أن الأمر في غاية السوء و حاول أن يتجنب الذهاب إلى الأفعى لكنه أيقن بأن الموت مصيره لا محالة إن لم يفعل.

انطلق الكاهن مسرعاً لإيجاد الثعبان و حينما اقترب من الشجرة صادفه الثعبان و قال له " مرحباً , هل تبحث عني يا صديقي ( قالها بسخرية واضحة و هو يضحك) ", فرد الكاهن " يا إلهي إنه أنت" , فسأله الثعبان ماذا تريد مني ؟. قال الكاهن " أواجه نفس المشكلة و أريدك أن تخرجني من الورطة التي وقعت فيها من جديد", فقال له الثعبان:


أخبر السلطان الذي أرسلك هنا

ستحوم الغيوم في السماء مرة أخرى

لم تعد قاحلة فهي تحمل أمطار درر (نجم لامع)

أخبره أنه قريبا في منتصف الليل

سيُرى البرق بوضوح ساطع

و ستهطل الأمطار الغزيرة

تماماً كما كانت تهطل في السابق

أخبره أن الأرض الجرداء ستغتسل بالمياه

أخبره أن المواشي لن تعاني بعد اليوم

للذهاب مسافات بعيدة للحصول على المياه

و أخبره أن السيول ستنهمر مثل السحالي

في جميع  أرجــــاء الأودية الجــــافة

العشب الطري سينبت في المراعي

و الماشية ضرعها يمتلئ بالحليب

و أخبره أن الزوجات التي هُجرن

في أشهر الجفاف الصعبة

سيبنون أكواخاً واسعة كبيت الحَجر

الآن تستطيع أن تخلع ملابسها المبتذلة

و تلبس لبساً جديداً من الحرير

مواقد البخور تظهر من الزوايا المظلمة

و يفرش حصير النوم الدافئ و المريح

فزوجها لم يفكر في الحب خلال موسم الجفاف

أما الآن و قد زال الشحوب و ذهبت النحافة

فإنه سيأتي مرة أخرى داخل الكوخ

الآن يستطيع اختيار الطعام الذي يريد

لم يعد مدفوعاً بالجوع وحده

مراراًو تكراراً بكلمات لطيفة سيطالبُ

بأكل المزيد  ثم المزيد ثم المزيد

و زوجته تأتي و تذهب لجلب هذا الصحن أو ذاك

و كلما مرت جيئة و ذهاباً بالقرب منه

يعود شباب الحب الذي قد شاخ بينهما

و في احتفالاتهم و بحثهم عن بركة الأبناء

سيقع حمل أطفال مشرقين مثل الصواعق

أخبر السلطان كذلك أن الشباب الصغار

لن يبقوا عزاباً لفترة طويلة

سيتم زواجهم بشكل لائق و جميل

الفتيات اللآتي كانوا يتوقون إليهن

و يعرضون عليهن الركوب و الرقص

سيرفهون عنهم و سيحتفون بهم

و أخبره أخيراً أن من أراد شغل ذهنه

بالصلاة و الدعاء فسيكون حرأ  في ذلك"

انطلق الكاهن مسرعاً إلى السلطان عقب سماعه للقصيدة فألقاها عليه و شكره السلطان و الناس على ذلك, و قبل المغيب و في الأفق البعيد ظهرت غيمة صغيرة قادمةً من جهة الشرق. بكى الناس و قالوا " إنها سحابة من الله " و مع ذلك لم يعتقد أحدٌ منهم أن هذه السحابة الصغيرة ستمطر, لكن بمجرد أن تم إدخال الماشية إلى الحظائر لمع البرق من جهة الشرق. الجميع أصبح سعيداً و كانت النساء تُزغردن بمرح, الحمدلله لم يعد هناك ما يدعوا للقلق بعد الآن. ما هو إلا وقت قصير حتى قال أحدهم " الحمدلله إن السحاب فوقنا بالفعل ", و قال آخر " دعونا نحفر قنوات لتصريف المياه و نحمى الماشية الهزيلة داخل الحظائر" أوى الناس إلى منازلهم بعدما حفروا حولها القنوات لحفظ المياه ثم خلدوا إلى النوم.

بحمدلله لم يمضي ربع الليل حتى بدأت الأمطار بالهطول, و بعدما هطلت كمية كافية و مناسبة من الأمطار لارتواء الأرض توقف المطر. و بعد توقف المطر أُخرجت المواشي حتى تشرب من البرك و خرج الناس لتخزين المياه, استأنف هطول الأمطار في الفجر و بعدها تم إخراج الماشية إلى المراعي. أمطرت السماء أربعة أيامٍ متتالية و جميع الحيوانات الجمال و الغنم و الماعز شربوا حتى امتلئت بطونهم, و حتى التي جف ضرعها بدأت تدر الحليب من جديد و شرب الناس ما طاب لهم من الحليب.

في منتصف الربيع جمع السلطان أفراد القبيلة في اجتماع موسع و حل كل القضايا العالقة خلال فترة الجفاف, ثم أمر بإحضار الكاهن و أمر بإعطاءه ماشية من كل نوع. فقال الكاهن في نفسه " فليشهد الله علي لقد أنقذ الثعبان حياتي ثلاثة مرات و قد خنته مرتين, هذه المرة يجب أن أحافظ على الوعد و أسلم كل ما كسبته اليوم إليه ". و بالفعل ساق جميع القطعان التي كسبها إلى الثعبان و قال له " يا أيها الثعبان أريد أن أقول لك ثلاثة أشياء, أولاً: لقد أنقذتني في مرتين سابقتين و كل مرة كنت أكافئ إحسانك بالنكران لكنني اليوم أتوب من فعلتي, هذه القطعان استلمتها اليوم خذها جميعاً و سامحني.ثانياً: أرجوك و أتوسل إليك أن نصبح أصدقاء, و أخيرا: بما أن حكمتك بلا حدود أخبريني عن الدنيا و الحياة ؟ "

رد عليه الثعبان " بالنسبة للصداقة فأنا لا أصادق الناس أو كائناً من كان, أنا إما أن أؤذي الرجل أو أساعده حسب الغرض الذي أرسلتُ من أجله. و بالنسبة للعفو فأنا سامحتك و عفوت عنك ,أما الحيوانات التي أحضرتها لي فأنا أعيدها لك فليس لي بها حاجة و اعتبرني قبلت هديتك. الآن نعود لسؤالك عن الدنيا و الحياة فإنني أخبرك بالآتي:

نعم هناك الدنيا لكن الحياة ليست منفصلةً عنها, حياتكم كما تسمونها تتشكل تبعاً لظروف الدنيا من حولكم. لقد خلق الله العديد من الأنماط في هذه الدنيا و هذه الأنماط هي القواعد التي تحكم حياة البشر. فحينما يكون نمط الحرب هو النمط السائد يكون كل الناس في عدواة مع بعضهم البعض في ذلك الزمن , و هكذا كان في الحرب الماضية حين سللت سيفك لتقتلني حتى بعد أن ساعدتك و قلت في نفسك " دعني أقطع رأسه !!!".

 أيضاً في زمن الجفاف و القحط لا يوجد رجل سخي تجاه الآخرين,لذلك فررت و احتفظت بجميع قطعان الماشية لنفسك و لم تعطني نصيبي من جائزة السلطان.لكن حينما يكون النمط هو الرخاء و الإزدهار من هو الرجل البخيل الممتلئ كراهية تجاه الآخرين؟! لذلك أتيت إلى عارضاً علىَ كل ما تملك و لم تحتفظ حتى بحيوان واحد لنفسك!. في كل مرة كان النمط هو الحاكم و لست أنت و هذا اضطرك للقيام بما قمت به.
الآن سأخبرك بمن أكون : أنا لست أفعى لكنني القدر و النصيب و لن تراني بعد اليوم, وداعاً.
و بهذا يا سادة يا كرام وصلنا إلى نهاية قصة الكاهن الذي اختبر ثلاثة مرات. آمل أن تكونوا قد استفدتم و استمتعتم بهذه القصة الفريدة من نوعها في تراثنا الصومالي , كما يسعدنا سماع انطباعاتكم عن القصة بشكل عام.


و هذا الفيديو للمتحدثين باللغة الصومالية, سجلته للعالم و الخبير الروسي السيد Georgi kapchits و هو يحكي لنا القصة بشكل مختصر باللغة الصومالية في معرض هرجيسا للكتاب:

Faaliyihii la Bilkeyday - a Soothsayer Tested



الثلاثاء، 19 نوفمبر 2013

اختبــار كــاهن (الجزء الثاني)





بعدما استمع الكاهن إلى شعر الأفعى المنذر بالحروب و الكوارث, شكره على ذلك و انطلق مسرعا إلى السلطان ليخبره بالنبؤة. في هذه الأثناء كان اليوم السابع و الأخير من المهلة الممنوحة للكاهن و جميع أهل البلدة ينتظرون قدومه لسماع ما لديه. قال البعض " إن الوقت يكاد ينفذ و لم يأت الكاهن بعد أين هو يا ترى؟ " فرد عليهم البعض الآخر " على الأرجح لم يجد الجواب و هو يختبئ في مكان ما ", و قال آخرون " صحيح اليوم هو آخر يوم من المهلة دعونا ننتظر حتى المساء". و مع اقتراب عصر اليوم السابع رأى الناس من بعيد غباراً فتسآءلوا " يا ترى من يكون القادم و ماذا يحمل؟ " ثم رأو رجلاً شاحبا يركض و يغني أبياتاً من الشعر, لقد كان الكاهن و قد تبدل حاله و انكمشت شفتاه و تشققت و هزل جسده و زاغت عيناه, فلا عجب  فهو لم يذق طعاماً أو يهنأ بنوم منذ سبعة أيام.

ذهب الكاهن مباشرة إلى السلطان و الناس يشيعونه من حوله , و حينما بلغ مجلس السلطان سلم عليه و صافحه ثم بدأ في التقاط أنفاسه المتقطعة و حبس الحضور أنفاسهم في انتظار ما سيتفوه به الكاهن. بدأ الكاهن في إنشاد الشعر الذي حفظه من الثعبان بعدما التقط أنفاسه ,ففرح الناس بالكاهن و أخذوا يصافحونه و يهنئونه على نبؤته و تحذيره لهم من الأيام الصعبة التي تنتظرهم.  عندها أمر السلطان أن يرتاح الكاهن في دار الضيافة و تنحر له ناقة سمينة احتفاءاً بقدومه. أرسل السلطان الرسل إلى عامة أفراد القبيلة يأمر فيه أن يجتمع جميع أفراد القبيلة بشكل عاجل بعد ثمانية أيام في مجلس عام لمناقشة مستقبل القبيلة.

في اليوم الثامن اجتمع جميع رجال القبيلة في مجلس السلطان , فقال لهم السلطان " إن زمن الحرب قادم و يجب على كل منكم أن يطعم خيله جيداً, كما يجب عليكم أن تجهزوا أسلحتكم و تصقلوا رماحكم جيداً و تحافظوا على استعدادكم و جاهزيتكم للحرب في أية لحظة و سنتجمع كل صباح و مساء حتى تبدأ الحرب.  و فعلاً استعدت القبيلة للمعركة القادمة و في كل يوم يرسلون السريات و الطلائع للمراقبة, و في أحد الأيام عادت سرية من السرايا بخبر مفاده " تأهبوا إننا نتعرض لهجوم".

قفز جميع الرجال على جيادهم و التقطوا رماحهم و سيوفهم, و في الصباح الباكر و حينما خرجت القطعان إلى الرعي انقض على القبيلة حشد من المقاتلين و لأن القبيلة كانت مستعدة فقد قابلتهم بكمين و ردت هجومهم بل و طاردتهم بعيداً عن الحمى. و بعد برهة من الزمن هاجمت كتيبة أخرى القبيلة لكنه تم سحقها بقوة, لقد أتى زمن الحرب و استعرت الحرب في كل صباح و مساء. لم ينعم الناس بطعم النوم و الراحة لمدة طويلة, و قد هزمت القبيلة كل الأعداء و الغزاة الذين تجرئوا على مهاجمتها و نجحت كل حملاتها المضادة لأنهم كانوا على أهبة الإستعداد و كان لديهم أفضلية العلم المسبق بما سيحدث.
مضت سنة و قد دمرت كل القبائل في المنطقة و تضررت بشكل كبير من الحروب المتتالية ما عدا القبيلة التي يرأسها السلطان, و في يوم من الأيام استدعى السلطان رعيته و خطب فيهم مشيداً بالمحاربين الشجعان ثم خاطب الكاهن قائلاً " لقد قمت بعمل ممتاز و أنا راضي عنك كل الرضا, و كعربون امتنان أرجوا أن تقبل مني قطيعاً من الإبل و البقر و الغنم و الماعز و الخيل". ابتهج الكاهن بالجائزة الموعودة و شكر السلطان على كرمه الشديد و قبل الأنعام التي قُدمت إليه من السلطان.

مضى الكاهن بقطيع الماشية بعيداً و تذكر وعده للثعبان بمشاركته الجائزة, فقرر الذهاب إلى الثعبان و مشاركته الجائزة و لكنه و في منتصف الطريق داخله الطمع حينما ألقى نظره متفحصة على قطيعه الثمين. فقال لنفسه " هل أنت أحمق ابن أحمق حتى تسلم هذه الحيوانات الجميلة إلى الثعبان؟ بدلاً من تسليم القطيع إلى هذا الوحش دعني أقتله بضربة واحدة من سيفي وأتخلص من هذا الثعبان".

ترك الكاهن القطيع مع الخدم و الرعاة و توجه وحيداً للقضاء على الثعبان و لما اقترب من الشجرة وجد الثعبان نائماً تحتها فاستل سيفه من غمده و توجه إلى الثعبان محاولاً قتله, لكن الثعبان استيقظ فجأة و هرب  إلى داخل الشجيرات القريبة قبل أن يعاجله الكاهن بسيفه. حينها اعترى الكاهن الخوف و الهلع مخافة أن يهجم عليه الثعبان منتقماً منه, فانطلق كالصاروخ هارباً بأقصى سرعة ممكنة للنجاة بحياته. ركض الكاهن مسرعاً لا يلوي على شيء و لا ينظر وراءه حتى وصل إلى الخدم و الرعاة و صرخ بوجههم " انقذوا القطعان هيا لنهرب" انطلق الكاهن مع الرعاة و القطيع و لم يتوقفوا حتى وصلوا إلى مكان آمن.

و في يوم من الأيام و الكاهن مرتاح في بيته يتمتع بحياته و بالثروة التي أعطاها إياه السلطان, آتاه رسول السلطان و أخبره بأن السلطان يرغب في رؤيته. تمتم الكاهن و رد بامتعاض و هو يهز رأسه " حسناً حسناً " و تسآئل الكاهن يا ترى ماذا يريد مني السلطان؟ و انطلق الكاهن مع الرسول في صمت و قلق مما يحمله لقاء السلطان. مضى الكاهن و الرسول في طريقهم بإتجاه مجلس السلطان الذي كان يجلس مع مستشاريه المقربين و تهللت أسارير وجهه حالما رأى الكاهن و قام لمصافحته و تحيته. و بعد برهة من الزمن سأل السلطان الكاهن " هل تعلم لماذا أرسلت في طلبك؟ في العام الماضي أنقذتنا جميعا حينما تنبأت بما حدث في السنة الماضية, الآن أريد منك أن تتنبأ بما يحمله لنا العام القادم ".

 الكاهن تجمد في مقعده من الخوف و لم يستطع الحديث لوهلة, ثم قال للسلطان " هل هذا ما طلبتني لأجله ؟ " قال له السلطان " نعم ", فرد الكاهن " أيها السلطان ألا تتذكر بأن مهارتي و براعتي قد خانتني من قبل ؟ ".  لكن السلطان جاوبه قائلاً " لا و ليشهد الرب إنها لم تخنك منذ العام الماضي و نحن شهدنا تحقق نبؤتك , فلا تتحدث بحديث لن يصدقه أحد. إذهب سبعة أيام كما فعلت العام الماضي و اتنا بعدها بنبؤة جديدة تخبرنا بما سيحدث العام القادم, و اجعل الإتفاق بيننا مثل العام الماضي". الآن أيقن الكاهن بأن الأمور تتجه نحو الأسوأ, و تسآئل ماذا يمكن القيام به؟ و بينما هو منهمك في التفكير انصرف الجميع من مجلس السلطان و بقى وحيداً يتدبر أمره حتى شارفت الشمس على المغيب.

تسآئل الكاهن " ماذا لو ذهبت مرة أخرى إلى الثعبان و أبديت ندمي تجاهه و إعتذاري منه ! و قلت له : إنني أعتذر عن كل ما بدر مني فقد عاملتك بشكل سئ, و أنا الآن في نفس الموقف الشنيع و الصعب مثل العام الماضي أرجوك ساعدني مرة أخرى". عزم الكاهن أمره و انطلق إلى الثعبان و وجده مستلقي تحت نفس الشجرة, و بدأ يبكي ندما على ما فات و قال للثعبان " اسمعني أيها الثعبان لقد عاملتك بشكل سئ جداً و أنا الملام الوحيد على فعلتي تلك, أنا انتهكت العهد الذي بيننا, لكنني أتوسل إليك أن تسامحني و تساعدني في محنتي حتى أخرج منها".

ضحك الثعبان و قال له " لقد برهنت معدنك الحقيقي حينما حاولت قتلي, و يبدو أنها مشيئة الله أن أبقى على قيد الحياة. لقد حاولت بكل ما أوتيت أن تتخلص مني و تقتلني, سأسامحك هذه المرة  و كما يقول المثل الصومالي " ما لم ينسى الناس الشر الذي لحق بهم لن ينزل المطر" استمع جيدا لما سأقوله لك:

"يا كاهن, يبدو أنه مقدر للجنس البشري
أن يكون سبباً في شقاء هذا العالم
كان من اختراعاتكم ذبح بعضكم البعض
الطعن كانت كلمة من ابتكاركم
و النار التي أشعلتوها
ستهلك الكثير من المخلوقات
حينما تكونوا في حالة عزلة و ضعف
تكونون مولعين و مغرمين بالصداقة
و تقدرون المساعدات المتبادلة
و الرجل الذي تناديه بالصديق
حينما تعاني من الحاجة و الضغوطات
لا يهمك أمره حالما تقضى حاجتك
لقد خرقت العهد الذي كان بيننا
السيئات المرتكبة من قبل أبناء آدم
ستكون عاقبتها تدمير العالم
ما تقوله بصوت عالٍ بشفتيك
لا تعنيه حقاً في قلبك
لقد كنت أنا من أنقذك من الفخ
حينما أتيتني في حالة يرثى لها
توقعت منك جزءاً من المكافأة
على النقيض أخذت مالي
و كان جزائي ضربة قاتلة من السيف
جلجلة و صلصلة سيفك
و الغبار الذي ثار فوق رأسي
والخوف الذي عايشته و أنا أفر
تارة أقفز و أخرى أتعثر بين الأشجار
لقد أصبت بالصمم من جراء ما حدث
كم خدعت بك و بدموعك
تلك الكلمات المتوسلة التي لامستني
إذاً لا تنتظر أن أمنحك الثقة
تلك الثقة سقطت في حفرةٍ عميقةٍ جداً
لكن سأخبرك بالجواب لسبيل الله
لقد ارتكبتم الأعمال الشريرة
ليس لدي شك أنكم اضطهدتهم
الضعفاء و الأيتام مرات عديدة
من وجهة نظري أنكم تٌصلُون
لأجل الظلم الذي اقترفتموه
الآن سيتم تسوية ديونكم القديمة
مع ذلك أخبر السلطان الذي أرسلك
أنه سيحل بكم جفاف شديد
أخبره أن العشب في المراعي سيذبل
الأشجار ستموت و لن يبقى إلا التي في البساتين
أخبره أن الماء لن يتدفق بعد الآن
في البرك أو في الآبار السطحية
و لن تراه في الأودية أو الأنهار
أخبره بأن الضعفاء و المساكين
سيموتون مع أهلهم و أحبتهم
و فقط الغنم ذو الرأس الأسود
و الجمال القوية سوف تعيش
و أخبره أن العمل الدؤوب و سعة الحيلة
ستنقذ صاحبها إلى أن يعود المطر "

و حينما سمع الكاهن هذا الشعر قفز من مكانه و أخذ يدور حول نفسه سعيداً , ثم قال " يا أيها الأفعى أتذكر جيداً كيف عاملتك المرة السابقة لكن هذه المرة أعدك أن أكافئك و تأكد أن ما حدث مني مسبقاً لن يتكرر أبداً و سوف أعطيك كل ما سأكسبه إنني أعدك".  فرد عليه الثعبان "دعنا نرى ما سيحدث". ركض الكاهن و ركض حتى وصل إلى قرية السلطان و أنشد للسطان أبيات الشعر التي حفظها من الأفعى, و حينما انتهى من القصيدة احتفل به أهل القرية و رفعوه فوق أعناقهم. صافحه السلطان و رتب على كتفه إشارة على الثناء و الرضى.

احتفل الجميع بالكاهن و أقاموا الولائم على شرفه, و في اليوم التالي جمع السلطان كل رجال القبيلة وأهل القرية و أمرهم أن يحتفظ كل واحد منهم بإحتياطات من الطعام و الماء تحسباً للأيام الصعبة القادمة. و بعد عدة شهور حلَت بالبلاد موجة جفاف شديدة أكلت الأخضر و اليابس , لم تمطر السماء في الخريف و الربيع و سحب الغبار تطايرت في كل مكان. تحولت الأرض إلى براري مقفرة و جفت جذوع الأشجار و الماء أصبح صعب المنال, فقط كان بالإمكان العثور على بعض المياه في الآبار العميقة أما السطحية منها أصابها الجفاف. ماتت قطعان البقر و الحيوانات الأليفة لأنها لم تصمد طويلاً بدون توفر المياه, و لم تنجوا سوى الجمال القوية. هلكت جميع القبائل الأخرى  مع ماشيتها و التي لم تستعد لهذه الموجة من الجفاف و لم يصمد سوى السلطان و قبيلته في هذه الظروف الصعبة بفضل ما خزنوه في وقت الرخاء.

أما الآن فقد أدرك الراوي الصباح فسكت عن الكلام المباح, انتظروا الجزءالثالث و الآخير قريبا.