لدي بعض الكتب القيمة التي لم أجد وقتاً
لقراءتها أو لعل شعلة حماستي انطفأت حالما وقعت بين يدي بعدما كنت متشوقاً
لإقتنائها ... ربما هي الشيخوخة بدأت تلقي بظلالها الرمادية. على كلٍ من ضمن هذه
الكتب مذكرات قائم مقام الاستعمار البريطاني في زيلع – صوماليلاند و التي طبعت عام
1921 م بعنوان "Sun, Sand and Somals". و بينما أتصفح المذكرات بشكل سريع وقعت
على قصة جميلة ، بداية أردت ترجمتها منفردة لكني شعرت بأنني أنتقص حقها إن لم أعرضها
في سياقها الكامل و أنقل لكم الأجواء المحيطة بها و نتصور معاً الجو و الظروف التي تم
سردها تحته.
تخيلوا الميجر. هنري راين قائم مقام زيلع يمسك
بمفكرته و يتناول قلمه مسترجعاً القصص التي سمعها البارحة من صديقيه محمد و بُرالي
بعد يوم ابتدأ بشعور بالوحدة و الاكتئاب منتهياً بجلسة سمر ليلية. دعنا نترك
القائم مقام يحكي لكم القصة كاملة أو دعنا نقل شبه كاملة:
اقترب اليوم الأول من السنة المحمدية
الجديدة دون حدوث أي أمر خارج عن المألوف ، و هذا شئ يستحق أن نضرب على الخشب
لأجله و نشكر الله عليه. في الرابعة عصر اليوم كان هناك هرج و مرج و الناس يتنقلون
في أرجاء المدينة المزدحمة. و لاحقا من على شرفتي شاهدت جميلات المدينة يسبحن و
يغتسلن في البحر ، ربما كان ينبغي ألا أنظر إليهن و لكنني لاحظت أن لدى بعضهن قواماً
استثنائياً جميلاً و الواضح أنهن معتدات بجمالهن و قوامهن الرشيق.
بحلول الخامسة و النصف تجمع الرجال و
الأولاد في الساحة الرياضية خلف منزلي و أقاموا الصلاة في الهواء الطلق . فيما بعد
كان يوماً طويلاً ، كان هناك الرقص و الغناء و الولائم حيث كان دور النساء بارزاً
و كانت مشاركتهم فعالة على جميع الأصعدة. و مع مغيب الشمس اندفعت الجموع للصلاة
مرة أخرى ، تبع ذلك رقص عام و ابتهاج تخلله شِجارٌ واحد فقط. فاطمة فارح سيدة مطلقة
دعيت للرقص مع إحدى المجموعات الصديقة و كانت تنتظر دورها للرقص بشغف كبير و حينما
حان دورها انفضت النساء و الرجال و توقف الرقص.
فاطمة المسكينة و التي تحب الرقص لم يتم
إعطائها الفرصة لإظهار مهارتها ، و ما قالته في معرض اعتراضها على انهاء الرقص
ينبغى أن يكون موجعاً و مباشراً لأن إحدى النساء الأخريات صفعت وجهها بحرارة و هنا
نشب قتال ضروس بينهما. وقتها اعتقدت أنه من الأفضل أن ابتعد عن المدينة قليلاً ،
محمد و بُرالي اشفقا على وحدتي و لحقا بي بعد تناول وجبة العشاء ثم جلسا معي للسمر
على عشة متواضعة من القش.
سألت محمد و طلبت منه أن يحكي لي واحدة من
قصصه ، فقال محمد " كان يا ما كان ... قدم رجل إلى مخيم
صومالي و في بوابة المخيم وجد امرأة فقال لها : أنا لا أتحدث مع النساء و أنا في
مزاج رائع للحديث ، هل يوجد لديكم هنا رجلٌ أتحدث معه ؟ ردت عليه المرأة في هذا
المخيم لا يوجد سوى رجلٍ واحد و هو نائم داخل الخيمة. فقال الرجل : إذا اذهبي و
أيقظيه من النوم ! فردت المرأة : أنا أخجل من أن أوقظه من نومته . فرد الرجل: و
لماذا ؟ .. قالت: "لأن أمه تكون ابنة أمي و أنا زوجة أبيه".
"هذه هي قصتي " هكذا قال محمد ،
و في بعض الأحيان يجلس صومالي لمدة يومين محاولاً معرفة نوع العلاقة التي تربط بين
تلك المرأة و ذلك الرجل النائم".
قال بُرالي المتقزز من قصة محمد " دع
عنك هذا ... أنا سأحكي لك قصة حقيقية صاحيب.
لكنها قصة فيها شقاوة ، هل تمانع ؟". الآن ماذا يهم جوابي فبُرالي سرد لنا
قصته على أي حال.
"كان يا ما كان" ( لن تكون قصة
حقيقة إذا لم تبدأ هكذا) ، كان هناك رجل صومالي غني و كان لديه فتاة جميلة و قد
أقسم هذا الرجل الغني أن يقتل أول رجل يسأله يد ابنته للزواج ، كان شيبةً يتمتع
بقوةٍ بدنية هائلة و كان يحسن التعامل مع الرمح و الخنجر. لم يجرؤ أحد أن يقترب من
والد الفتاة الجميلة و يعرض عليه عرض زواج. هذا الرجل الغني كان تحت إمرته رجال
أقوياء يرعون له قطعاناً هائلة من مختلف أنواع الماشية.
و كان من عادة أب الفتاة الجميلة أن يخرج
كل صباح إلى الحظيرة و رعاية ماشيته بنفسه متيحاً المجال لرعاته أن يتجهزوا و
يحضروا طعامهم ليوم طويل من الرعي. في مثل تلك الأحوال كان أعزلاً لا يحمل معه
أسلحته كالمعتاد و يترك رمحه و درعه و خنجره الطويل في المنزل. لاحظ أحد الفتيان
عادة أب الفتاة الصباحية و قال في نفسه " إذا تجهزت بكامل أسلحتي و اعترضت أب
الفتاة في طريقه و هو أعزل ، لما لا أستغل الفرصة و أسأله يد ابنته للزواج ، فهو
لن يتمكن من قتلي لأنه لا يحمل سلاحاً".
و في أحد الأيام تربص الشاب للرجل الغني في
طريقه صباحاً ، رآه الرجل الغني و قال له " ماذا تريد ؟" أجاب الشاب و
هو بكامل عدته و عتاده " يد ابنتكم الكريمة للزواج " استغرب الرجل من
الشاب و قال له " ألم تسمع بأني قد أقسمت على أن أقتل أول رجلٍ يطلب يد ابنتي
للزواج ؟ ....اذهب عن طريقي و تنح جانباً ".
أجاب الشاب " لن أتزحزح من مكاني قيد
أنملة أيها الرجل المسن. إنني أرفض أن أفسح لك الطريق أو أدعك تمر حتى توافق على
زواجي من ابنتك". الآن اسقط في يد والد الفتاة و أضمر في نفسه أن يقتل هذا
الشاب لأنه قد أقسم بأغلظ الأيمان أمام قومه و من الصعب أن يدع هذا الشاب يفلت من
يده و لكنه بحاجة إلى أن يصل فقط إلى خنجره الذي تركه في المنزل. وافق الرجل على
تزويج ابنته من الشاب و طلب منه أن يمضي معه لمنزله و في نيته أن يغدر به حالما
يضع يده على الخنجر.
لكن مع مضي الوقت و هو يمشي مع هذا الشاب
تسائل الرجل الغني : " لماذا يخاطر هذا الشاب بحياته ليسألني يد ابنتي للزواج
و هو يعلم يقيناً أنني أنفذ وعدي بالقتل على الرغم أن الآخرين لم يجرؤا على سؤالي بهذه الجرأة و الجسارة". لا بد أن لديه قلباً شجاعاً و لعله يكون زوجاً مناسبا
لابنتي ، هنا توقف الرجل و طلب من الشاب توضيحاً أكثر لموقفه و لماذا فعل معه ما
فعل ؟.
أجاب الشاب "حسناً ، ليكن معلوماً
لديك أنني مشهور بين قومي الذين يعيشون بعيداً عن هذه الديار بثلاثة أمور : أولاً
أنا إنسان صلف بغض النظر عن ما أقوم به لا أشعر أبداً بالخجل أو العار منه و لا
أبالي برد فعل الآخرين. ثانياً أنا جسور و شجاع لا أعرف الخوف و لم يولد بعد الرجل
الذي يخيفني. ثالثاً إذا سألني أحدهم ما أستطيع تقديمه حتى لو كانت حياتي فإنني لا
أستطيع الرفض و سأعطيه بكلتا يدي مع قلب سعيد و راض".
ازداد اهتمام الغني بهذا الشاب و تسائل إن
كان صادقاً فيما يدعيه من صفات و خصال، و أضمر في نفسه أن يختبره ليعرف حقيقة
الأمور فإن كان صادقاً سيحنث في قسمه و يتركه يعيش و إلا قتله شر قتلة. عادا إلى
منزل الرجل الغني و بعد إنهاء الترتيبات اللازمة عقد قران الشاب على الفتاة
الجميلة ، أخذ الشاب يجهز نفسه للسكن و الاستقرار في ديار الفتاة و بين أهلها. لكن
حماه الغني قال له " يجب أن تأخذ زوجتك و تستقر مع قبيلتك و أهلك" ، أجاب
الشاب بأنه جاهز لهذا الأمر و أنه لا مانع لديه بالمغادرة مع زوجته.
جهز لهم الغني ثلاثة جمال محملة بالهدايا الثمينة
و أعطى الشاب طعام ثلاثة أيام فقط و قال له " أعلم أنك فقير فخذ هذه الجمال
الثلاثة و انطلق في رحلتك. و لكن ضع في اعتبارك أن هذا هو كل ما سأعطيك إياه لا
أكثر و لا أقل." انطلق الشاب مع زوجته الجميلة في رحلتهما باتجاه ديار الشاب
الشجاع ، و حينما ابتعدا بمسافة كافية أمر الرجل الغني بخمسين من أشرس محاربيه و
قال لهم " إن صهري و زوجته قد أخذا بالإتجاه إلى ديار جماعته. يجب عليكم أن
تنتظروا ثلاثة أيام و في اليوم الرابع حينما ينفذ طعامهما هاجموا قافلته. إذا هرب
منكم اقتلوه و احضروا ابنتي معكم ، لكن إن قاتلكم و وقف أمامكم يجب ألا يمسه سوء
مهما حدث و اعيدوه إليَ و كونوا متيقظين لتصرفاته طوال طريق العودة ".
تحرك المحاربون و في صباح اليوم الرابع
هجموا على قافلة الشاب و زوجته و هما يستظلان تحت ظل شجرة منهكين من الجوع و
التعب. رآهم قادمين في مجموعة قتالية و هم
يهجمون عليه و على زوجته، على الفور قفز على حصانه و تلقف درعه بشماله و أخذ الرمح
من بين يدي زوجته ثم اندفع بينهم و أبلى بلاء حسناً في قتالهم. حينما رأى المحاربون
شجاعته و إقدامه قالوا له " هوي هوي ..أمان" ثم رفعوا أيديهم و كأنهم
يطلبون السلام ، و أخبروه بأنهم جند حماه و أنهم يحملون رسالة مفادها طلبه بالقدوم
عليه. استمع لهم ثم وافق على العودة معهم و معه زوجته.
في الليلة الأولى لم يكن هناك طعام و أمر
الشاب الصغير بأن يذبحوا أحد الجمال الثلاثة لكي يطعم من معه من الفرسان. قالت له
زوجته " إنك أحمق إن نحرت الجمل كان لزاماً أن نرمي ما عليه من الهدايا
الثمينة في البرية، و لا تنسى بأننا فقراء و لا يمكن أن نتوقع هدايا أخرى من
أبي". أجابها الشاب " لا أستطيع رؤية خمسين رجلاً يتضورون جوعاً لأجل أن
أحتفظ ببعض الأحمال و الهدايا، يجب أن أنحر الجمل".
و في اليلة الثانية نحر جملاً آخر و رمى
بحمولته كذلك، و في الليلة الثالثة و الأخيرة فعل الأمر ذاته و نحر الجمل الأخير و
رمى ما تبقى من الهدايا في الأحراش المجاروة. و في صباح اليوم الرابع وصلت القافلة
إلى مخيم الرجل الغني ، و في الحال أخبره الفرسان بكل الأحداث التي شاهدوها من
الشاب خلال تلك المدة. تهللت أسارير الرجل الغني و أقام الولائم على شرف صهره الذي
أصبح مثاراً للفخر و الإعتزاز.
و في أحد الأيام و بعد صلاة العشاء قال
الرجل الغني للشاب " يا بني ، قد حان الوقت لتخبرني و تشرح لي لماذا أنت صلف
لا تشعر بالخجل من أفعالك ؟ و لماذا أنت
شجاع و جسور إلى هذا الحد ؟ و لماذا أنت كريم بشكل يفوق كل الرجال ؟". أخذ
الشاب بالجواب على أسئلة حماه فقال:
ذهبت مرة مع قومي إلى إحدى المعارك و كان
العدو يفوقنا عدداً أضعافاً كثيرة ، لاحظت أن الرجال الخائفين و الذين بقوا في
الصفوف الخلفية كانوا أكثر من يقتل بالرماح التي تتجاوز رؤسنا لتصل إليهم. و هكذا
تعلمت أن حياة الإنسان ليست في يده و لكنها بيد الله، و حينما يحين وقتنا لن
نستطيع الهرب بالركض بعيداً أو رفض القتال. لذلك أنا على يقين أن الله سيتوفاني في
الوقت المخصص لي و سأترك له ليحدد وقتي دون أن أقلق على حياتي.
أما بالنسبة للكرم ، فأنا لست كريماً في
الحقيقة لأن كل ما أمنحه للآخرين فهو ملك لله حتى حياتي كما أخبرتك هي ملك له. في
الماضي كنت أنا و أخي أغنياء و لدينا الكثير من قطعان الماشية، و في أحد الأيام
قدم إلينا رجلان فقيران يبحثان عن من يضيفهما. رفضنا أنا و أخي أن نضيفهم و
طردناهم من أرضنا ، و كان يعيش بالقرب منا رجل فقير و زوجته لم يكن يملك سوى عدد
قليل من الماعز. اتجه إليه الضيفان بحثاً عن المأوى و الطعام و بالفعل ضيفوهما و
ذبحا ماعزاً.
ضحكت أنا و أخي علي جيراننا الفقراء و قلنا
" إنه مقدر أن يساعد الفقراء الفقراء". لم تمضي أيام حتى حل طاعون الماشية
بأرضنا و لم يتبق لنا ماشية واحدة فأصبحنا فقراء بين ليلة و ضحاها و غدونا كمتسولين لا
يملكون لقمة للأكل. أما جارنا الفقير الذي ذبح للضيوف نجت ماشيته من الطاعون و
تكاثرت حتى أصبح من الأغنياء، لذلك تعلمت أن أموال الأغنياء في هذا العالم إنما هي
أمانة أعطيت لهم من الله الذي يستطيع أن يأخذها منهم و يحرمهم إياها في ليلة
واحدة. فأنا الآن أشارك كل ما أملكه لمن هم أقل حظاً مني ما دمت أملك الفرصة و القدرة
على فعل ذلك ، و الحرص و الخشية من الفقر ينبغي أن نتركها و تفارقنا إلى الأبد.
" هذه هي نهاية القصة" هكذا قال
بُرالي .. فقلت له " لكنك يا بُرالي قلت أن القصة فيها شقاوة ؟ و أنت لم تشرح
لنا لماذا كان الشاب صلفاً لا يشعر بالخجل أو العار من أفعاله ؟.
تلألأت عيون بُرالي و هو يقول " هذا
هو الجزء الشقي "الغير لائق" من القصة ..صاحيب" .. أصررت على بُرالي أن يخبرني بهذا الجزء الشقي
و بالفعل أخبرني بعد إلحاح شديد.. و سأترك هذه القصة غير مكتملة و لن أكتب السبب كما أرادها بُرالي.