الصفحات

الخميس، 13 فبراير 2014

رياضة صيد الأسود في صوماليلاند (الجزء الأول)



في نهاية القرن التاسع عشر كانت صوماليلاند أشهر منطقة لرحلات القنص و السفاري في شرق أفريقيا قبل أن تشتهر كينيا أو تنجانيقا أو أوغندا بذلك، حيث كانت تحوى مساحة 67 ألف ميل مربع من الأحراش و أراضي السافانا الغنية بالأسود و الحياة البرية. و مثلت هذه المناطق بقعة مفضلة للبريطانيين لممارسة هواية الصيد التي ابتدأوها في الهند بصيد النمور البرية و الخنزير الهندي، حيث استبدلوهما بالأسد و الخنزيز البري الأفريقي ذي الأنياب الطويلة. 


سنحكي لكم مقتطفات من مذكرات الكابتن ميليس أحد أشهر الصيادين، حيث يحكي لنا تجربته في صيد الأسود في صوماليلاند نهاية القرن التاسع عشر.. يحكي لنا الكابتن ميليز ويقول: 

ركبت سفينة بخارية تجارية من عدن متجها إلى سواحل صوماليلاند و بعد أن سلكنا طريقاً ملتوياً وصلنا إلى الميناء القديم في زيلع، ثم نزلنا على الشاطئ و كان كل شي كما تركته قبل عدة سنوات حيث قضيت خمسة أشهر في هذا المنفى الساحر و اللطيف.تذكرت رحلات صيد الخنازير البرية بالرماح في البراري المعشبة حول المدينة. فعلا لم ألحظ أي تغيير في المدينة ... الهدوء الحالم .. أمواج البحرالهادئة التي تغسل الشاطئ باستمرار.. السماء الزرقاء الصافية , تلك المنازل المعدودة والمبنية من صخور مرجانية بيضاء تعكس أشعة الشمس الساطعة و هي مرتفعة عن أكواخ الصومالين التي تحيط بها. 

القنصلية تواجه البحر و أمامها يرفرف العلم الإنجليزي، لم يكن هناك أي تغير. بل كان هناك تغير فعلمنا يرفرف وحيداً، أتذكر حينما كان يرفرف بجانبه العلم الفرنسي و العلم المصري أيضاً. حيث تم إخراج الفصائل الفرنسية المدعومة من القبائل الصومالية بعد المناوشات مع الانجليز و تم إخلائهم من المدينة،  الآن هناك هدوء و سلام في منطقة زيلع. ابحرنا بعد ذلك جنوبا باتجاه "بلحار" هنا يبدو الخط الساحلي و كأنه يمتد إلى ما لا نهاية، تستطيع أن ترى خطاً متصلاً من الرمال الصفراء تتشابك معها رغوة بيضاء قادمة من الخليج. بلحار عبارة عن مستوطنة تجارية خاصة بالصوماليين حصراً تتكون من أكواخ الصوماليين على نطاق واسع، و مع هذا البحر المتألق يظهر في الأفق من جهة اليابسة أحراش و شجيرات تبدو كضباب أصفر قاتم على رؤس المرتفعات المحيطة.

إنها منطقة برية موحشة و فيها تاريخ متوحش كذلك فقد تدمرت قبل سنوات بالحريق و الكوليرا و راح الكثير من سكانها ضحية للقبائل المتعطشة للدماء في الحروب. في اليوم الثالث وصلنا إلى بربرة و كنت سعيداً لترك هذه السفينة ذات الطعام السئ، نزلنا إلى بربرة و سط حشود  صاخبة من الأهالي.فقط خلال  يومين حافلين في بربرة استطعت أن أنسق ما يعرف محليا باسم " قافلة" مكونة من عشرة جمال و اثنا عشر صوماليا سبعة منهم سلحتهم بالبنادق وحماران كان الهدف منهما أن يكونا طعمين لإصطياد الأسود. 

إلى جانب البضاعة التي اشتريتها بوزن ألف رطل من الرز و نصف ذلك من التمر و مائة رطل من السمن بما يكفي لرحلة شهرين. كان يجب أن أفكر بأمور أخرى كذلك مثل: السرج على ظهر الجمال، التباكو (الدخان)، ملابس كهدايا، أواني الطبخ و أحذية للرجال، و فؤوس لصنع الزريبة، براميل مياه و الحبال. وأشياء كثيرة ساعدني على توفيرها التاجر العربي محمد هندي و هو رجل صادق و أمين و آخيرا اشتريت مُهرة حبشية بثمن باهظ أنهيت معها تجهيزاتي  للرحلة.

في ظهر اليوم التالي من بين الحزم و الأمتعة التي تظهر عليها الفوضى و الإبل ذات المزاج السئ التي تشتكى بصوت عال ممتزج مع صرخات الإبتهاج المزعجة للصوماليين، كانت القافلة جاهزة و على أهبة الإستعداد للسفر في زمن قياسي. تحركنا قبل الغروب بقليل في محاذاة الساحل الممتد عبر الأفق. بعد مدة وصلنا إلى تلال منخفضة خارج المدينة كانت هذه التلال الصفراء تمتد في الأفق، كانت تبدو أرضاً صعبة و خالية عدا عن بعض الشجيرات النحيلة. كانت تبدو منطقة خالية من الحياة ما عدا بعض الغزلان التي تخرج من تحت ظلال الشجيرات والتي تحدق فينا من مسافة قريبة مغرية لاطلاق النار عليها أو ترى ما يشبه السناجب الأرضية و هي تختفي في فتحات لا تعد و لا تحصى في الأرض. كانت المسيرة طويلة والجو حار والصوماليون الذين كانوا بصحبتي كدليل كانوا راجلين على أقدامهم و مع الوقت أصبحت أفضل أن أمشي أنا أيضاً بدلاً من الجلوس على ظهر الدابة. و كان من الممتع رؤية خط البحر الأزرق وهو يختفى في الأفق من ورائنا.

وصلنا إلى أول وادي في طريقنا و استرحنا عدة ساعات ثم أكملنا المسير نحو وادي آخر يبعد نحو ثمانية أميال حيث خيمنا ليلاً. كانت نيتي أن نمضي بأسرع ما يمكن باتجاه هضبة " الهود" التي تمتد في عمق صوماليلاند. كانت أقرب حافة للهضبة تبعد عن المنطقة التي كنت فيها مسافة 150 ميلاً، أكملنا المسير في فجر اليوم التالي ثم أخذنا استراحة قصيرة في الظهر ليرتاح الرجال و ترتاح الدواب التي معنا. بعد ذلك أصبحنا نسير في طلعات مضاعفة يومياً، حيث تحسنت طبيعة المنطقة بعد أيام من المسير حيث كانت مشجرة بشكل جيد وسط تلال بنية متدرجة تنمو عليها أشجار الميموزا التي تشبه المظلات. كان أمامنا جبل كف الأسد (قعن – لباح) و هي أكثر منطقة غزيرة بالأشجار في سلسلة جبال قوليس التي تمتد على يسارنا. 

المسار الصخري الذي اتبعناه قادنا عبر الوديان المنتشرة ذات الرمال البيضاء و بين الصخور و الحدود السميكة من الأشجار و غابات الشجيرات حيث ترى منظراً من أجمل المناظر الطبيعية. الزواحف من جميع الأنواع تراها في المنطقة و الأشجار من النخيل إلى شجرة الميموزا وأعداد كبيرة من الطيور المتنوعة بعضها يحمل ريشاً رائعاً ...تبدوا غابة مليئة بالحياة. هنا وهناك ترى أودية خلابة وتشاهد مناطق لتجمع القصب الأخضر الداكن حول بعض المستنقعات المائية محاطة بأعشاب خضراء على أطراف الأودية ذات الرمال البيضاء.

 الخروج في نزهة ليلية في الوادي الهادئ بمعية بندقيتي كان له طعم آخر بالنسبة لي. بدأ سكون متزايد يتسلل إلى الغابة مع غروب الشمس لا يقطعه سوى أصوات مفاجئة  لبعض الطيور داخل الشجيرات أو عويل ابن آوى في الجوار. في مثل هذه الساعة قد يجد المرء في طريقه مجموعة مختلفة من الظباء أو الخانزير البرية أو الفهود أو الضباع، حتى ملك الغابة قد يتم مصادفته في الوادي في مثل هذا التوقيت. بعد عدة أيام أصبح الجو بارداً و أظلتنا السحب الرعدية الممطرة في جبل كف الأسد (قعن- لباح) و جرت الأخاديد بالمياه العذبة. علمت عن موسم الأمطار الذي ابتدأ و الذي كنت متحمساً له لأنه بدونه لن نستطيع الصيد في "الهود". و مع المشي في محاذاة الجبل و على بعد أميال في اليوم الرابع  قطعنا مسافة 90 ميلاً منذ بدأ الرحلة و أنا أنظر من رائي القمة العظيمة لجبل "قعن لباح".

دخلنا في منطقة منخفض جبلي و من بعيد بدت قمتين مدورتين لجبلين توأمين تذكرني بالبلاد الغامضة في رواية كنوز الملك سليمان للكاتب هنري رايدر، واسم الجبلين باللغة الصومالية " ناسا هبلود" بمعنى ثديي الفتاة. الآن أصبحت ترى قطعان من أنواع متنوعة من الغزلان و الظباء منها غزلان طويلة الرقبة تعرف بالغرنوق و ديرو و أول و كانوا يرعون في مرمى النيران. بعد مسيرتين طويلتين وصلنا إلى قمة جبلي "ناسا هبلود"، الآن دخلنا عميقاً في البلد و أصبحنا نسمع أخبار متكررة عن أسود في المنطقة من الصوماليين الذين نقابلهم. هذه الأخبار أغرتني لتحويل المسار والبحث عن أسود المنطقة لكنني استمريت في المخطط للتوجه إلى "الهود".

يتبع في الجزء القادم ..

الخميس، 6 فبراير 2014

السلطان الصومالي ويل وال "Wiil Waal" و اللغز



مقدمة:

كان يا ما كان في قديم الزمان في منتصف القرن التاسع عشر كما تحكي الروايات، كان هناك سلطان عظيم يحكم جزءاً من بلاد الصومال اسمه القراد فارح ابن القراد حرسي و المشهور بلقب " ويل وال". كان ويل وال سلطانًا مهاب الجانب تطيعه القبائل الصومالية و تنضوي تحت لوائه لمحاربة قبائل الجالا للتوسع داخل الهضبة الاثيوبية. كان هذا السلطان يتمتع بقدر كبير من الذكاء و الشجاعة و لديه قدرة هائلة على توحيد الناس حوله كما كان يستخدم الأحجيات و الألغاز كثيراً مثل الأحجية التي سنحكيها اليوم. كان رجلاً حقيقياً و لكن القصص التي أثيرت حوله ربما تكون صحيحة و ربما تتمتع بقدر من سعة الخيال كحال الأساطير في كل مكان في العالم.


القصة:

كان هناك حاكم صومالي يعرف ب "ويل وال" اشتهر بالذكاء و الحكمة و كان في بعض الأحيان يعتقد أنه الوحيد الذي يتمتع بهذا القدر من الذكاء. كان يستمتع بإختبار مستوى ذكاء رعيته و ذلك لغرض البحث عن رجل يكافئه في الذكاء.  و في يوم من الأيام جمع كل الرجال في المنطقة و أخبرهم بأحجية طالباً منهم طلباً غريباً. قال لهم " احضروا لي جزءاً من أجزاء الغنم , و هذا الجزء يرمز إلى ما يمكن أن يفرق الناس أو يجمعهم. من يحضر لي هذا الجزء سأعترف به كرجل حكيم ".

تلفت الرجال إلى بعضهم البعض و تساءلوا : هل يوجد عضو في الغنم يرمز إلى ما قاله السلطان ويل وال ؟ أخذوا يتسائلون و هم يفركون ذقونهم ببطء كناية عن عمق التفكير. انصرف الرجال إلى منازلهم و أخذ كل منهم يستعد لذبح أفضل و أسمن خروف لديه. كان كل منهم يمني نفسه أن يحل لغز السلطان و يأتي بالقطعة الصحيحة لينال شرف الاعتراف و تقدير ذكائه و حكمته أمام الجميع.

أحدهم نحى جانباً ساقاً ممتلئة و الآخر التقط كتفاً سمينة و البعض اختار الكبد و هكذا تنافسوا في اختيار أفضل قطعة. في هذه الأراضي كان يعيش رجلٌ فقير من رعية السلطان كان يملك قطعاناً من الماشية أقل بكثير مما يملكه الآخرون. لكنه كان يؤمن أن غنائه يكمن في الصحة التي أنعم الله بها عليه و في عدد ذريته الكبير. أخذ الرجل الفقير يجر أسمن و افضل خروف لديه و هو يقول في خاطره " يا لها من خسارة أن أذبح هذا الخروف للسلطان و هو لديه الكثير من المواشي و النعم ". 

"أبي ما هي المناسبة لذبحك أفضل و أسمن أغنامنا" هكذا سألته ابنته البكر و هي قادمة لمساعدة أبيها في ذبح الخروف. أعاد أبوها القصة على مسامعها و أخبرها بطلب السلطان "ويل وال" , أخذ الأب في رفع أحد أضلاع الخروف بعد ذبحه و قال " أظن أن هذه هي القطعة المطلوبة" قالها بصيغة المتردد و هو ينظر إلى ابنته في انتظار تعليق منها يطمئنه على صحة اختياره. لم تتحدث البنت و ظلت تحدق في قطعة الضلع و كأنها تبحث عن خيط يقودها للحل الصحيح. تنهد الرجل الفقير و هو يوجه حديثه مرة أخرى إلى ابنته " إنني في الحقيقة لا أعلم ما هي القطعة الصحيحة التي ترمز إلى ما أخبرنا به السلطان, و لكني أظن بأن هذه القطعة ستفي بالغرض".

أخذت البنت الضلع من يد أبيها و أخذت تردد " شي يوحد الناس أو يفرقهم ...؟" ثم أعادت القطعة مرة أخرى إلى أبيها, و بسرعة أخذت الخنجر و قطعت مرئ الخروف و قالت لأبيها "  قدم هذه القطعة إلى السلطان ويل وال و سيقولون عنك أنك رجل حكيم" قالتها و هي تبتسم ابتسامةً ممزوجة بالزهو و الفخر. 

الأب انصدم من اختيار ابنته و صرخ باستغراب " المرئ ؟" الذي يربط بين الحلق و المعدة ؟ المرئ الذي يرمى دائما و لا يؤكل ! و تسائل كيف يمكن أن تقترح ابنته مثل هذا الخيار. قال الأب " ستكون إهانة للسطان فلن يأكل أحد المرئ و بالطبع الضلع أجدر بأن يقدم للسلطان". أجابته ابنته " ثق بي يا أبتي فإنني أريد مصلحتك" نظر الرجل إلى كومة اللحم المتبقي بعد ذبح الخروف كل هذا اللحم الذي سيبقى لعائلته فوافق على اختيار ابنته بناءاً على ثقته بذكاءها و عقلها.

في اليوم التالي تجمع جمع غفير أمام منزل السلطان و أخذ كل منهم ينتظر دوره و هو يضع أمامه قطعة الخروف التي احضرها, فاجتمعت أمام السلطان قطع كثيرة من اللحم: ارجل, أكتاف و غيرها من القطع السمينة. في هذه الأثناء كان الرجل الفقير ينتظر دوره و قد ازداد توتراً و هو يحدق بما قدمه الآخرون من قطع اللحم الفاخر, و أخذ يرسم خطوطا على الأرض بعصاه حتى يخفف من توتره. 

أخيراً حان دوره و تقدم أمام يدي السلطان فأدخل يده داخل الكيس الذي معه ليخرج قطعة المرئ, أخذت يده ترتجف داخل الكيس و حينما أخرج القطعة التي احضرها سمع صرخات استهجان من الحضور " ماذا لقد أحضر المرئ ! يالها من إهانة أن يقدم مثل هذا إلى السلطان " بعد برهة خيم الصمت على الحضور و كذلك السلطان ويل وال أطال الصمت و النظر إلى الرجل الفقير و ما يحمله. 

الرجل الفقير لم يعد يحتمل الموقف الصعب و الصمت المطبق فنظر إلى السلطان ويل وال و وجده مبتسماً و سمعه يقول له بصوت عال " أنت رجلٌ حكيم " فغر الرجل الفقير فاه غير مصدق لما يحدث حوله, هنا علم ويل وال بذكائه أن الرجل لم يأتي بالحل من عند نفسه و لابد أن هناك من ساعده. فسأله " من أخبرك بأن تحضر هذه القطعة من الخروف؟ " فأجاب الفقير " إنها ابنتي البكر , هي الذكية و لست أنا".

هنا طلب السلطان ويل وال رؤية البنت فذهب الجميع إلى منزل الرجل الفقير لرؤية هذه البنت الذكية, و حينما وصلوا إلى منزل الرجل الفقير خرجت إليهم البنت الجميلة بقامتها الطويلة و هي تخفض عينيها للأرض بخجل. تحدثت بصوت ناعم و هادئ  لا يخلو من الوضوح و قالت " لقد طلبتُ من أبي أن يُحضر لك قطعة المرئ من الخروف لأنها في الحقيقة تدل على ما يمكن أن يجمعنا أو يفرقنا, في هذه الحياة هناك الأغنياء الذين يملكون الكثير و هناك الذين لا يملكون إلا القليل. و حينما لا يتشارك الناس يصبحون أعداء و لكن حين يتشاركون يعيشون في سلام. المرئ يوصل الطعام إلى المعدة الجائعة و حينما لا يتم تشارك الطعام يصبح فارغاً , من الممكن أن يكون رمزاً للجشع و الطمع أو يكون رمزاً للكرم و السخاء و في نفس اوقت يجمع الناس أو يفرقهم".

هز السلطان ويل وال رأسه موافقاً لكلام ابنة الرجل الفقير و رتب على كتفها و هو يعلن " وجدت الرجل الحكيم متمثلاً في هذه الفتاة الشابة, و حتماً سيأتي يوم لتحكم هذه الأرض". يقال بعدها أن السلطان ويل وال طلب يد البنت للزواج من أبيها و صارت بينهما قصص و أخبار و وجد السلطان الحكيم ويل وال من ينافسه في الذكاء و الدهاء.