الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

المخلص الصادق لا يخسر



مقدمة:

مضت مدة طويلة لم أكتب خلالها أو أنقل لكم قصصا من التراث الصومالي كما جرت العادة ، هذه المرة أعود لكم بقصة مشوقة من نوعية القصص السرنديبية تحمل معاني جليلة و حكمة عظيمة تستحق أن نتخذها دستوراً في تعاملنا مع الله ومع الناس.

القصة:

كان يا مكان في قديم الزمان، كان هناك صديقان يسميان ب "موقي و ديق" كانا يعيشان في إحدى المدن و كانا يعملان بالشحاتة حيث يدوران في الأسواق بحثاً عن عطف و إحسان المحسنين و كانا يقتسمان الطعام آخر النهار تماما مثل الأخوين. و في الليل ينامان بجوار بعضهما في إحدى خرابات المدينة ، هكذا كان الحال مدةً من الزمن.

كان موقي صاف النية و كان يستمتع كثيراً بصحبة ديق و يتمنى من كل قلبه أن تستمر هذه الصداقة و يستمرا في اقتسام الأرزاق. أما ديق فكان يحمل في صدره رغبة مغايرة و كان يتمنى لو كان هو الشحات الوحيد في المدينة حتى تخلو له الساحة و لا يضطر للتقاسم مع موقي.

و في يوم من الأيام لم يشعرا بالوقت و هما يدوران في أسواق و طرقات المدينة حتى انتصف النهار و اشتدت حرارة الشمس بعد الظهيرة، و خلال هذه الفترة كان جميع السكان في بيوتهم يتقون حر الشمس تحت الظلال. اقترب الوقت من العصر و اشتدت حرارة الشمس على الصديقين موقي و ديق و بلغ بهما العطش مبلغه فقررا التوجه إلى بئر على أطراف المدينة بحثاً عن الماء.

و فعلا وصلا إلى البئر و كانت الأرض مقفرة و خالية في الأرجاء و لسوء حظهم لم يجدا دلواً يرميانه إلى البئر لغرض السقيا. فقال ديق "ماذا نفعل الآن ؟" و هو يتأفف من شدة الحر، هنا اقترح موقي بأن يربطا حول خصريهما قطعة قماش كانت معهما تماما كالحبال فيهبط أحدهما للبئر و يشرب ثم يرفعه صاحبه و ينزل التالي حتى يشرب كلاهما واتفقا على تنفيذ الخطة.

و بالفعل ربط ديق القماش حول خصره و نزل إلى البئر بمساعدة صديقه موقي الذي بقى أعلى البئر و حينما ارتوى ديق من ماء البئر رفعه موقي إلى الأعلى ، هنا حان دور موقي للنزول إلى البئر فربط القماش في وسطه و أمسك ديق القماش في البداية و ما إن اقترب  موقي من قعر البئر حتى تذكر ديق أمانيه و رغبته بالتخلص من موقي حتى تخلوا له المدينة و قال في سره " لقد حانت فرصتك اليوم" فأفلت قطعة القماش ثم انصرف و كأنه لم يفعل شيئاً.

وقع موقي في قعر البئر و لحسن الحظ لم يصب بأذى ، فأحسن النية بصديقه ديق و قال في نفسه " لعل القماش أفلت منه" فأخذ ينادي صديقه و لكن لا إجابة ظل يردد و ينادي و حينما لم يسمع أي صوت صمت موقي آخيرا. و في منتصف الليل سمع حركة غريبة أعلى البئر و سمع أصوات ضباع تقترب، كانوا ثلاثة ضباع و ياللعجب سمعهم يتحدثون فقال الضبع الأول " هل تعرفون بنت الملك التي لم تجد دواءاً لعلتها لو أنهم قصوا أظفارها العشرين ثم بخروها به لطابت من مرضها".

و قال الضبع الثاني للأول " هل تعلم أن هناك خزنة من الذهب مدفونة تحت الشجرة الكبيرة في شرق المدينة" ، و قال الثالث " هل رأيتم هذه المدينة الظمئانة الشحيحة المياه لو أنهم أزاحوا الصخرة الكبيرة في شمال المدينة لتفجرت المياه من تحتها و أصبحوا في نعمة". انصرف الضباع الثلاثة و استسلم موقي للنوم من شدة التعب و هو متعجب مما سمع و لم يستيقظ إلا على أصوات مجموعة من الناس قدموا للتزود من البئر في صباح اليوم التالي. تمسك موقي بأول دلو تم رميه و أحس صاحب الدلو بثقله فطلب المساعدة و بالفعل خرج موقي من البئر و الناس حوله مندهشون.

 فحكى لهم و هو يرتجف من شدة البرد ما حدث له بالأمس و كيف تركه صديقه ديق بعدما أفلته في البئر، اتجه بعد ذلك إلى المدينة متجهاً إلى قصر الملك و بعد محاولات عديدة تم السماح له بالدخول و رؤية الملك. دخل إليه موقي و قال له " لدي دواء ابنتك الذي أعيا الأطباء". صرخ الملك في وجهه و قال له " يا ويلك إن كنت تكذب علي لأفصلن رأسك عن جسدك و قد فعلتها بكثيرين قبلك كذبوا علي".

رد موقي بثقة " أنا لا أكذب و سأعالج ابنتك و لكن ما جائزتي إن عالجتها؟" ، رد عليه الملك " إنني أنصحك بأن تحتفظ برأسك و لقد يأست من شفاء ابنتي ، و هي وحيدتي فإن أنت داويتها فأعدك بأنني سأزوجها لك". تجمهر أهل الملك لمشاهدة هذا الرجل الذي يدعي قدرته على مداواة ابنة الملك و كان الكثير منهم يتأسف لهذا المسكين الذي سيقطع رأسه بعد قليل. ابتدأ موقي بقص أظافر ابنة الملك بمكينة و قد استغرب الحضور فهم كانوا يظنون أن معه دواء للشرب ! طالبهم بموقد فيه جمر و غطاء ، و فعلا وضع الأظافر التي جمعها في الموقد ثم غطى ابنة الملك و الموقد بجانبها و الجميع مترقبون إلى ما ستنتهي إليه الأمور.

بعد برهة من الزمن استيقظت ابنة الملك من غيبوبتها و كأنها كانت في نوم ، و قالت صارخة " الحمدلله أنا بخير ...لقد شفيت". فرح الملك و أهله فرحاً شديداً بشفاء ابنتهم الوحيدة ، و بالفعل أوفى الملك بوعده و تزوج موقي من ابنة الملك و أصبح أميراً من العائلة المالكة. و بعد فترة من الزمن و بينما يتشارك موقي جلسة عائلية مع الملك تحدث للملك قائلاً " ماذا لو أخرجت لكم ماءاً و أنهيت عطش أهل المدينة و حللت مشكلة قلة المياه ، ماذا يكون جزائي عند جنابكم؟".

أجابه الملك " الماء هو حياة للناس و الماشية و النباتات و لو نجحت و أتيتنا بالمياه فسوف ترث العرش من بعدي". وافق موقي على ذلك وطلب من الملك أن يشهد الشعب على قرار وراثة العرش. و في صبيحة أحد الأيام نفخت الأبواق و اجتمعت رعية الملك في ساحة المدينة يترقبون حديث الملك. تحدث إليهم الملك و أخبرهم بقراراه توريث العرش لزوج ابنته الوحيدة إن تمكن و حل معضلة المياه ، وافق الشعب على ذلك إن تحقق الشرط.

هنا تحدث موقي للشعب و طلب منهم أن يحملوا معاولهم إلى شمال المدينة عند الجبل الصغير و يزيحوا الصخرة الكبيرة هناك. ذهب جميع رعايا الملك باتجاه الصخرة و بدأو العمل بضرب معاولهم على الصخرة الضخمة و بعد جهد كبير تفجر ينبوع ماء عذب أسفل الصخرة . و بعد سنوات توفي الملك و تولى موقي الحكم ليصبح الملك الجديد للمدينة كما كان متفقاً عليه.

أما خزنة الذهب فلم يخبر موقي أحداً بالأمر و بنى بيتاً فوق موقع الكنز و استخرج الذهب. مرت الأيام و موقي يعيش في سعادة و في أحد الأيام كان مستلقيا فرأى من نافذة قصره صديقه ديق و مازال يدوربذلك الوعاء الذي يجمع فيه أموال المتصدقين و المحسنين. فقال لحراسه ائتوني بذلك الرجل الذي يمشي في الشارع ، فلحق الحراس بديق و أحضروه أمام الملك الذي أمره بدوره بالجلوس بين يديه. رد ديق و هو خائف يرتجف " أيها الملك أنا رجل مسكين و لم أفعل شيئاً فلماذا قبض علي الحرس؟ وأنت ملك عادل لذلك أطلب من سيادتكم إطلاق سراحي".

رد عليه موقي باسماً " يا رجل لم يقبض عليك أحد لكنني أمرتهم بإحضارك ، فهل تعرف من أكون ؟" رد عليه ديق " أنت الملك و السلطان و إنك ملك عادل و لا أعرف عنك أكثر من ذلك". فقال له الملك " ألا تتذكر الرجل الذي كنت صاحبه لفترة طويلة و كنتما لا تفترقان هل نسيته؟" أجاب ديق متعجبا " أإنك أنت ؟ لقد شككت لوهلة بالصوت و كنت أقول لنفسي أين سمعت هذا الصوت من قبل؟ فمن إين لك كل هذا ؟! ".

أجابه الملك موجي " وجدت كل هذا في المكان الذي تركتني فيه آخر مرة" ، أجابه ديق " فهمت" ثم هرب خارجاً و لم ينتظر أي توضيحات أخرى. هرب ديق باتجاه البئر الذي أصبح مهجوراً و لم يعد أحد يشرب منه بعد تفجر المياه شمال المدينة فرمى بنفسه في البئر. غابت الشمس و حينما انتصف الليل اجتمعت الضباع الثلاثة كعادتها فوق البئر تتجاذب أطراف الحديث ، و تحدثوا أن الأمورالثلاثة التي تحدثوا عنها قد تم تنفيذها فلا بد أن أحدهم يسترق السمع أسفل البئر فأخذت الضباع تحثوا التراب على البئر حتى تدفن من يستمع إلى حديثها. و لم يخرج ديق من البئر الذي أصبح قبره بعدما وقع في الحفرة التي أرادها لصديقه.

خاتمة:

يقول المثل الصومالي : daacadi ma hungowdo ، و معناه قريب من " لا يخسر  الإنسان المخلص الصادق" وهناك بيت من الشعر أحب ترديده دائما و أتخذه شعاراً " من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله و الناس" ، و خلاصة قصتنا هذه و حكمتها أن تعامل الناس بحسن نية و تتخذ الإخلاص و الصدق سبيلاً في عملك و صداقتك و زواجك و في عمل الخير. لا تنتظر مردوداً إلا من الله و لو ضاع الإخلاص و الصدق بين الناس فلن يضيع مع الله فاجعل عملك خالصاً لوجهه و صف النية في سبيله يرزقك و يجازيك من حيث لا تحتسب و لا يخطر لك على بال.



الخميس، 3 أبريل 2014

الأخوان و الورث





كان يا مكان في قديم الزمان


كان هناك شابان اخوان توفي والدهما و ترك لهما ميراثاً ليتقاسماه, الميراث كان عبارة عن: بقرة و منزل و بئر و نخلة مثمرة و بطانية كبير لاتقاء البرد في الليل. كان الأخ الأصغر يذهب لرعي البقرة كل يوم لكن لم يكن يُسمح له بشرب حليبها, و كان يغسل البطانية و لكنه لا يلتحفها في المساء. و كان يسكن مع أخيه الأكبر في المنزل و يشربان  معاً من البئر , أما التمر فكان يبيعه الأخ الأكبر في السوق و لم يكن يعطي الأخ الأصغر أي نصيب من البيع. 

 و في يوم من الأيام حدث ما يلي:

الأخ الأصغر ذهب كعادته لرعي البقرة و بينما هو يرعاها إذ رأى شيخاً كبيراً معه قربتان مصنوعتان من جلد الغزال, إحداهما تحمل الماء و الأخرى الحليب. فسلم على الشيخ و تبادلا أطراف الحديث ثم سأل الشيخ أن يسقيه. ناوله الشيخ القربة التي تحمل الحليب فأخذ الشاب الصغير يشرب الحليب بنهم شديد أثار استغراب الشيخ الذي قال له " ما كل هذا النهم ؟ ألست تملك هذه البقرة السمينة الممتلئة ضرعها حليبا ً؟ ".

فأجابه الأخ الأصغر " أنا صائم عن الحليب و لا يشرب هذا الحليب إلا أخي الأكبر" و أخبره بتفاصيل قصته مع أخيه الأكبر. رد عليه الشيخ فقال له " هل تسمع مشورتي و نصيحتي؟ " فأجابه بالقبول و قال له هات ما عندك أيها الشيخ. فقال له الشيخ " إذهب و أخبر شيوخ القبيلة بما فعله أخوك ليحكموا بينكما ". و فعلا ذهب الاخ الصغير إلى شيوخ القبيلة و اخبرهم بقصته مع أخيه الأكبر, فتم عقد اجتماع للفصل بينهما و بعد سماع قصتهما. قرر الشيوخ ما يلي:

البيت لن يقسم و يجب أن يعيشا فيه سويةً , كذلك البئر هو بين الأخوين و لن يقسم. أما فيما يخص البقرة فسألوا الأخ الأصغر " هل تريد الجزء الأمامي أم الخلفي؟" فأجاب " أريد الجزء الأمامي". ثم سألوه " البطانية هل تريد أن تكون لك في الليل أم في النهار ؟" فأجاب " في النهار". ثم سألوه " هل تريد الجزء العلوي للنخلة أم الجزء السفلي ؟ " فأجاب " الجزء السفلي". استغرب الشيوخ من اختيارات الأخ الأصغر و ظنوا أنه خسر كل شي بسوء اختياراته بينما كان الأخ الأكبر فرحا بنصيبه من القسمة.

و بعد فترة من الزمن صادف أن زَارَ الأخَ الأصغر في منزله ذلك الشيخ الذي نصحه برفع أمر أخيه إلى شيوخ القبيلة و رءاه و هو يلتحف البطانية في النهار الحار و هو يتصبب عرقاً. فسأله عن أحواله فأخبره بما كان من أمر حكم الشيوخ و الاختيارات التي اختارها. فقال له الشيخ افعل الآتي " حينما تكون البطانية في حوزتك في النهار ارمها في البئر ثم سلمها لأخيك في الليل". و بالفعل في اليوم التالي حينما تسلم الأخ الأصغر البطانية رماها في البئر و في المساء أخرجها من البئر و سلمها للأخ الأكبر. 

شعر الأخ الأكبر بأن البطانية مبلولة فسأل أخاه " ما الذي بلَ البطانية ؟ "  فأجابه بأنه لا يعلم. و في اليوم التالي راقبه الأخ الأكبر و شاهده و هو يرمي البطانية في البئر فقال له " لا تفعل ذلك , لا ترمها في البئر ". فأجابه الأخ الأصغر " و ما شأنك بالبطانية الآن لم يحن بعد وقتك لإمتلاكها انتظر حتى المساء". فقال له الأخ الأكبر " أرجوك لا ترمي البطانية في البئر , البطانية لنا جميعا و سنلتحفها سوية في الليل" و منذ ذلك اليوم لم يعد الأخ الأصغر يرمي البطانية في البئر. 

ذهب الأخ الأصغر إلى الشيخ ليخبره بما حدث و أنه تشارك مع أخيه البطانية و لكن لا يعلم ماذا يفعل حتى يحصل على حليب البقرة. فقد اختار الجزء الأمامي بينما أخذ أخوه الجزء الخلفي حيث ضرع البقرة و حليبها.  أخبره الشيخ أن هذا أمر سهل و بسيط يجب عليك حينما تُحلب البقرة أن تضربها بعصى على رأسها. 

و في الصباح الباكر جهز الأخ الأصغر عصى غليظة لتنفيذ الخطة و اتجه إلى أخيه و هو يهم بحلب البقرة,و حينما رآه أخوه الكبير قال له " عجباً ما هذه العصى؟ هل ستقاتل أحدهم اليوم ؟" فرد عليه " سأتقاتل مع النصف الأمامي الذي أملكه " و أخذ العصى و ضرب البقرة على رأسها ضربة قوية. لم يهتم الأخ الأكبر و قال في نفسه دعه يضرب كما يشاء و لأحلب البقرة في الجزء الذي أملكه. 

أصبح الأخ الأصغر يضرب رأس البقرة كلما أراد أخوه الكبير أن يحلبها فتقفز البقرة و تأبى أن يتم حلبها, آخيرا استسلم الأخ الأكبر و قال " يا أخي لا تقتل البقرة و دعنا نتقاسم الحليب". و بالفعل اتفقوا على تقاسم الحليب قسمة عادلة. 

عاد الأخ الأصغر مسرعاً إلى الشيخ يبشره بنجاح الخطة من جديد و طلب منه أن يساعده في حل أمر النخلة و التمر الذي يستأثر به أخوه لوحده دوناً عنه. فأجابه الشيخ أن هذا الأمر بسيط و سهل , كل ما عليه القيام به حينما يكون أخوه في أعلى النخلة يجمع التمر و البلح أن يأتي بفأس و يبدأ في ضرب النخلة من الأسفل. 

و في اليوم التالي تسلق الأخ الأكبر النخلة و بدأ في جمع البلح حينها أسرع أخوه الأصغر و في يده فأس و بدأ في ضرب النخلة من الأسفل. استغرب الأخ الأكبر و نظر بفزع إلى الأسفل و قال لأخيه " ماذا تفعل أيها المجنون ؟" لم يجبه الأخ الأصغر و أكمل ضرب النخلة بالفأس , هنا فطن الأخ الأكبر إلى مقصد أخيه و قال له و هو يصرخ عالياً " ارجوك توقف و لا تقطع بين نصيبي و نصيبك من النخلة , و دعنا نتقاسم المبلغ الذي نتحصل عليه من بيع التمر و البلح".

بالفعل اتفق الأخوان على تقاسم الحصاد و حصل الأخ الأصغر على نصيبه من التمر فأخذ جزءاً من نصيبه و قدمه هدية إلى الشيخ الذي ساعده على استرجاع حقه و من ثم شكره بحرارة على نصائحه و حكمته. وعاش الأخوان بعدها في سعادة و وفاق بعدما حصل كل منهما على حقه الشرعي و تقاسما كل شي بما يرضي الله و رسوله.

الخميس، 20 مارس 2014

رسالة زعماء الصومال إلى الشيخ سلطان القاسمي (الجزء الثالث)



رسالة زعماء الصومال

  إلى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي  (الجزء الثالث و الآخير)




الخاتمة و تحقيق الدكتور سلطان بن محمد القاسمي:

علم الانجليز بموضوع رسالة زعماء الصومال للشيخ سلطان بن صقر القاسمي, فبحثوا عن طريقة يمنعون بها الشيخ سلطان من الوصول إلى أرض الصومال. فلما علموا بوجود التاجر الصومالي عبدالله بن عوض في مسقط , و الذي كان يبحث عن فتيات صوماليات أٌخذن من ساحل بربرة, أحضروه إلى أبوشهر, حيث قابله المقيم البريطاني في الخليج "كابتن صمويل هنل"  “Captain Samual Henell” في يناير 1838م , أخبروه بأن القواسم هم الذين قاموا بخطف الفتيات الصوماليات,و عليه أن يذهب إلى رأس الخيمة لمقابلة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي لمطالبته بالفتيات المسروقات.

ثم أركبه سفينة متجهة إلى رأس الخيمة وصل عبدالله بن عوض إلى رأس الخيمة و قابل الشيخ سلطان, و لكنه لم يعثر على فتيات صوماليات هناك, بل أخبره الشيخ سلطان بأن الفتيات الصوماليات في مسقط. لذلك رجع إلى أبوشهر و أخبر "كابتن هنل" بذلك, لكن "كابتن هنل" ادعى بأن شخصاً يدعى خميس أحد رعايا الشيخ سلطان هو الذي قام بخطف الفتيات.

كان عبدالله بن عوض يعرف سالمين بن خميس أحد رعايا الشيخ سلطان, و الذي كان يتردد على ميناء بربرة لنقل البضائع التجارية, فرفض أن يتهمه بذلك العمل السئ. ادعى "كابتن هنل" أن عبدالله بن عوض تعرض للإهانة في رأس الخيمة, و ان الشيخ سلطان قد دفع له مبغاً مقابل سكوته, أنكر عبدالله بن عوض كل ذلك. لكن "كابتن هنل" كتب تقريراً سيئاً عن المعاملة التي لقيها عبدالله بن عوض في رأس الخيمة, و بعث به إلى حكومة بومبي. رجع عبدالله بن عوض إلى مسقط و أخذ يبحث عن الفتيات الصوماليات, فتعرف على واحدة منهن, فأحضروها إلى مقر المقيم البريطاني في مسقط , و كان المقيم البريطاني غائباً فقام وكيله المحلي نيابة عنه بإجراء المقابلة.

و هناك أخبرت الفتاة عن شخص من صور يدعى علي بن سعيد بن عيسى ربان السفينة الكويتية بأنه هو الذي أحضرهن إلى مسقط. فأربع منهن تم بيعهن بين صور و صحار , و أربع أٌخذن إلى الكويت. و قد تعرف عبدالله بن عوض على الأربع فتيات اللاتي بين صور و صحار,و تعرف كذلك على اسم مالك السفينة الكويتية و هو يعقوب بن غانم الكويتي. و عندما طلب الوكيل المحلي في مسقط من عبدالله بن عوض الانتظار حتى حضور المقيم البريطاني في مسقط, تعلل بأنه مسافر إلى أبوشهر لأن بينه و بين "كابتن هنل" اتفاقية !!.

مع أن عبدالله بن عوض الصومالي لم يتهم أتباع الشيخ سلطان بن صقر بأخذ الفتيات الصوماليات, و مع أن عبدالله بن عوض , و معه الوكيل المحلي نائباً عن المقيم البريطاني في مسقط, تعرفا على الفتيات الصوماليات إلا أن "كابتن هنل" يصرَ على اتهام الشيخ سلطان بن صقر القاسمي بذلك العمل السئ. فبادر في 17 ابريل 1838م بزيارة سلطان بن صقر القاسمي في رأس الخيمة, و قام بمطالبة الشيخ سلطان بالفتيات الصوماليات نيابة عن عبدالله بن عوض, بيَن له بلهجة قوية سخط الحكومة البريطانية عندما علمت عن مزاولة ذلك العمل السئ و السنيع من قبل الشيخ سلطان بن صقر القاسمي ورعاياه. 

أنكر الشيخ سلطان ذلك الاتهام و ذكر مؤكداً أن رعايا إمام عُمان و كذلك آخرين من الكويت هم الأشخاص المعنيون بذلك العمل, و حاول الشيخ سلطان أن يقنع "كابتن هنل" لكنه لم يقبل تلك المبررات, فقام الشيخ سلطان و أخبره "كابتن هنل" بأنه قد بعث السيد ميرزا أحد خواصه إلى زنجبار ليقوم بترتيبات مع إمام مسقط تقتضي بأنه لا يسمح لأي سفينة تغادر موانئ القواسم إلى ساحل أفريقيا دون أن تحمل تصريحاً مكتوباً خاصاً منه. و عند وصول أي سفينة تابعة للقواسم إلى أي ميناء من موانئ الإمام فأن ولاته سيعينَون مكان إقامة بحارة أي سفينة تابعة للقواسم خلال فترة تواجدها في ذلك الميناء. 

و عند رجوع كل سفينة من سفن القواسم إلى الخليج, فإن النوخذا من كل سفينة يجب أن يبرز أوراقاً ثبوتية موثقة بختم الإمام أو من ينوب عنه تثبت  أن تصرف البحارة كان سليماً و هادئاً و أنه لا أحد من جماعة القواسم كان متهماً بسرقة أو نقل الرقيق بخفية أو بقوة أو خداع. و لإعطاء "كابتن هنل" برهاناً على صدق مشاعره, ذكر بأنه قد أعطى إمام مسقط تفويضاً تاماً بالتصرف المطلق لمعاقبة كل واحد من رعاياه يكون مذنباً أو مخالفاً لذلك الاتفاق. فرد "كابتن هنل" بأن ذلك البرهان الصادق من شعوره مقنع, و بما أنه واضح أن كلاهما لديه نفس الرأي فأنه (الشيخ سلطان) ليس لديه مانع من أن يعطي موافقته لترتيبات إضافية تضع حداً للممارسات السئية التي يتذمر منها الآخرون.

عندها طلب "كابتن هنل" من الشيخ سلطان أن يوافق على إعطاء السفن الحربية البريطانية الحق بتفتيش و حجز السفن في أعالي البحار, في الحالات التي يكون فيها بحارة تلك السفن عرضة للشك بأنها قد اشتركت في خطف العبيد. و في نفس الوقت أن يوافق بإعطاء تلك السفن الحربية الحق في إقاء القبض و مصادرة السفن الضالعة في تجارة الرقيق. عندها و بدون تردد أعرب الشيخ سلطان عن موافقته, فقدم "كابتن هنل" اتفاقية كانت معدة من قبل فقرأها المترجم و وقعها الشيخ سلطان بن صقر القاسمي و ختمها بختمه.

و هكذا حال الانكليز بين الشيخ سلطان بن صقر القاسمي و وصوله إلى أرض الصومال لنجدة أهلها.

انتهت

تحقيق العبد الفقير إلى الله:

في بادئ الأمر لا شك بأن هذه الرسالة ثمينة جداً من عدة نواحي و توثق فترة تاريخية هامة, كما أشكر الدكتور سلطان بن محمد القاسمي على نشره لهذه الرسالة الجميلة و تحقيقها. فالشكر موصول له على ما بذله من جهد للبحث عن المعلومة و عرضها للقراء. 

لدي بعض الملاحظات و النقاط البسيطة عن هذه الرسالة كنت قد كتبتها قبل سنتين حينما قرأت الرسالة لأول مرة, و شد انتباهي عدة نقاط منها ما يلي:

·        الكاتب مجهول و لم يرد ذكر لمن هو , لكن يتضح من طريقة الكتابة و كمية الوعظ الوارد فيها أن كاتبها أحد شيوخ الدين ذو الصلة بسلاطيين القبائل الصومالية.
·        يبدو أن الكاتب أو الشيخ قد أرسل هذه الرسالة إما بمبادرة من تلقاء نفسه أو بمشاورة مع سلاطيين القبائل , لكن من المؤكد أنه استرسل و استخدم لهجة لا يستخدمها زعماء القبائل في طلب النجدة من طلب التملك عليهم.
·        و النقطة الأكثر استغربا هي ادعاء كاتب الرسالة بأنه سيدخل الصومال في الاسلام , و من المعروف أن الصوماليين كانوا مسلمين بأغلبية ساحقة في ذلك الوقت, و هذا الأمر يؤدي بنا إلى وضع فرضيات حول قصد الكاتب من هذا الكلام:
(1) كان الكاتب يكذب على الشيخ سلطان بن صقر القاسمي فقط لأجل كسب دعمه و مساعدته و من معه على حكم الصومال تحت مسمى نشر الدعوة و الاسلام رغم أن الصوماليين مسلمين!!.
(2) أن الشيخ الذي كتب الرسالة يحمل بذور فكر متطرف اقصائي كفكر القاعدة و الشباب حيث يعتبر المسلمين الذين لا يوافقون توجهه مسلمين حقاً سواء كانوا صوفية أو غيرهم من المذاهب الأخرى و هذا يتضح من لهجته حين وصف حكام عمان بالمرتدين الخوارج.
·        النقطة الأخيرة التي تحتاج إلى بحث باسهاب هي التساؤل عن قدرة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي على نجدة الصوماليين و الوقوف في وجه بريطانيا العظمى التي كانت لا تغيب الشمس عن مستعمراتها؟ أما حجة المقيم البريطاني في الخليج و تلفيقه التهمة للشيخ تبدو عذراً واهياً للتخلف عن النجدة إن كانت هناك نية حقيقة للنجدة. يبقى هذا بحثاً آخر ينبغى البحث فيه على انفراد.
ما عدا هذه الملاحظات التي قد لا يتفق عليها معي الكثير , تبدو رسالة جميلة و مكتوبة بخط جميل جداً و تحمل في معناها المجمل الهدف الأسمى بطلب الوحدة الاسلامية و الوقوف سوية في وجه الاستعمار الغاشم و بريطانيا أو النقريز كما كانت تسمى قديماً و الشكر مرة أخرى للدكتور سلطان بن محمد القاسمي على نشر الرسالة و تحقيقها.

الجمعة، 14 مارس 2014

الصوماليون و وقفة البجع


الصوماليون القدماء قلدوا الطيور في الوقوف على رجل واحدة

 
اليوم سأفصح  لكم عن عادة غريبة كان يمارسها أجدادنا الصوماليون في البادية, قد يراها البعض لأول مرة كما انتبهت لها مؤخراً و أنا اتصفح مجموعة صور قديمة لاجدادنا و قد يمر عليها الآخرون مرور الكرام. شد انتباهي وضعية غريبة يقف فيها أحدهم  لم أفهم المغزى من هذه الحركة لاول وهلة الا بعدما ربطت هذه الحركة بحركة مماثلة في عالم الطيور.

كما نعلم العلاقة المتداخلة بين عالم الانسان و الحيوان و الطيور و كيف ان الانسان استفاد من هذه الكائنات و قلدها في حركات خاصة بهذه الحيوانات أو الطيور. تماماً كما فعل الصينيون و الشرق آسيوين عامة في تقليد حركات الافاعي أو العقارب و غيرها من الحيوانات و الاستفادة منها في الرياضات القتالية للدفاع عن النفس.
يبدو أنه أيضا كان هناك نصيب للصوماليين في تقليد الكائنات الحية و هذه المرة مع الطيور بشكل عام  هذه الخاصية تظهر بشكل واضح في الطيور ذات الارجل الطويلة خاصة كالبجع و اللقلق و الفلامنجو حيث تثني هذه الطيور أحد رجليها باتجاه جسمها و تقف على رجل واحدة فقط. و يبدو أن الحكمة من ذلك هي لحفظ طاقة و حرارة الطير فجسم الطائر مغطى بالريش و ما عدا رجليه اللتان تبردان بسرعة لذلك سيخسر حرارة أكثر بتعريض الرجلين للهواء فيكتفى برجل واحدة فقط, كما أن هذه الوضعية مريحة للطيور و ترتاح و تنام و هي على هذا الحال.

طائر فلامنجو نائم على رجل واحدة


المثير للعجب أن الصوماليين القدماء كانوا أيضاً يتخذون نفس الوضعية لأخذ قسط من الراحة تماماً كالطيور, حيث كانوا يستخدمون أداة تشبه الحبل لتثبيت أحد الارجل للاعلى و الاتكاء على عصى لخلق نوع من التوازن. هذه العادة التي لوحظت كذلك لدى قبيلة سان في صحراء كالاهاري في جنوب افريقيا و كذلك في السكان الاصليين لاستراليا. كما أن هذه الحركة بشكل أو بآخر تعتبر من ضمن تمارين التركيز و التأمل في اليوغا و تسمى بوضع الشجرة حيث يتم رفع القدم اليمنى عن الارض بمساعدة اليد اليمنى و تثبيت كعب القدم اليمنى على الفخذ بحيث يكون اتجاه اصابع القدم للاسفل و نفس التمرين بالنسبة للقدم اليسرى مع الحفاظ على التوازن. يساعد هذا التمرين علي زيادة التوازن الجسدي، و يزيد من التركيز ويقوي عضلات الأرجل والبطن. 

و يحكى في قصص الاساطير العربية القديمة تحليل يشرح سبب استخدام الطيور و خاصة اللقلق لهذا التكنيك بالوقوف على رجل واحدة, دعونا نورد لكم الحكاية على أية حال للتسلية و إضافة منظور عربي لموضوعنا:
 يحكى يا سادة يا كرام أنه في قديم الزمان كان الناس لا يأكلون لحم الطيور، إذ لم يكن يخطر في أذهانهم أنها تصلح للأكل، ولذلك كانت الطيور لا تهرب منهم أبداً بل تتناول الطعام من أكفهم آمنة مطمئنة. وحدث ذات مرة أن تاه تاجر في غابة واسعة، ظل فيها عدة أيام من دون أن يكتشف الطريق إلى قريته، وكاد يموت جوعاً، فاصطاد ديكاً وحشياً وأكله بعد أن ذبحه ونظفه وشواه، وعندما عاد التاجر إلى قريته حدث أصحابه بما فعله، ومنذ ذلك اليوم بدأ الناس يأكلون لحم الطيور.

أفراد من قبيلة سان في صحراء كالاهاري


وانتشر الخبر في القرية والقرى المجاورة لها، وسمعت به طيور الغابة، ومن بينها اللقلق الذي خشي على نفسه، وقرر أن يخدع الانسان فأخفى إحدى رجليه تحت جناحه، وكان الناس يعرفون جيدا أن لكل طائر رجلين اثنين، فنظروا إلى اللقلق فرأوه واقفاً على رجل واحدة، فاستغربوا أمره وظنوه مخلوقاً لا يمت للطيور بصلة فلم يصطادوه ولم يأكلوه.وحدث أن مر باللقلق رجل من القرية فسمعه يغني:‏‏
  
أنا اللقلق.. أنا اللقلق‏‏
ومن يصطادني أحمق‏‏
لكل طير رجلان‏‏
ولي رجل من البان‏‏
ولحمي طعمه مر‏‏
أنا شؤم أنا شر

فتركه وذهب.. لكن صياداً ذكياً  قرر أن يراقب اللقلق، فدخل إلى الغابة واختفى تحت شجرة كبيرة، فلما تلفت اللقلق حوله ولم ير أحداً. وكان قد تعب من الوقوف على رجل واحدة، أنزل رجله الثانية، وبدأ يقوم بنزهة بين الأشجار فانقض الصياد عليه يريد الإمساك به، فأسلم ساقيه للريح وصفق بجناحيه وطار بعيداً ثم حط فوق رابية وراح يغني:‏‏ 

أنا اللقلق.. أنا اللقلق‏‏
بلون الورد والزنبق‏‏
جناحي ريشه مخمل‏‏
ولحمي طازج يؤكل‏‏ 

فأطلق الصياد طلقة من بندقيته, ولكن اللقلق كان بعيداً, فأخطأته الطلقة.‏‏ 

فيا ترى هل نستطيع اليوم أن نمارس تلك العادة القديمة عند الاجداد ؟ و هل نستطيع أصلاً أن نقف مثل تلك الوقفة و لو لدقائق بتركيز لأجل أخذ قسط من الراحة ؟ أم أن اللياقة لا تسمح بذلك ؟