مقدمة:
مضت مدة طويلة لم أكتب خلالها أو أنقل لكم قصصا من التراث الصومالي كما
جرت العادة ، هذه المرة أعود لكم بقصة مشوقة من نوعية القصص السرنديبية تحمل معاني
جليلة و حكمة عظيمة تستحق أن نتخذها دستوراً في تعاملنا مع الله ومع الناس.
القصة:
كان يا مكان في قديم الزمان، كان هناك صديقان يسميان ب "موقي و
ديق" كانا يعيشان في إحدى المدن و كانا يعملان بالشحاتة حيث يدوران في
الأسواق بحثاً عن عطف و إحسان المحسنين و كانا يقتسمان الطعام آخر النهار تماما مثل
الأخوين. و في الليل ينامان بجوار بعضهما في إحدى خرابات المدينة ، هكذا كان الحال
مدةً من الزمن.
كان موقي صاف النية و كان يستمتع كثيراً بصحبة ديق و يتمنى من كل قلبه
أن تستمر هذه الصداقة و يستمرا في اقتسام الأرزاق. أما ديق فكان يحمل في صدره رغبة
مغايرة و كان يتمنى لو كان هو الشحات الوحيد في المدينة حتى تخلو له الساحة و لا
يضطر للتقاسم مع موقي.
و في يوم من الأيام لم يشعرا بالوقت و هما يدوران في أسواق و طرقات
المدينة حتى انتصف النهار و اشتدت حرارة الشمس بعد الظهيرة، و خلال هذه الفترة كان
جميع السكان في بيوتهم يتقون حر الشمس تحت الظلال. اقترب الوقت من العصر و اشتدت
حرارة الشمس على الصديقين موقي و ديق و بلغ بهما العطش مبلغه فقررا التوجه إلى بئر
على أطراف المدينة بحثاً عن الماء.
و فعلا وصلا إلى البئر و كانت الأرض مقفرة و خالية في الأرجاء و لسوء
حظهم لم يجدا دلواً يرميانه إلى البئر لغرض السقيا. فقال ديق "ماذا نفعل الآن
؟" و هو يتأفف من شدة الحر، هنا اقترح موقي بأن يربطا حول خصريهما قطعة قماش
كانت معهما تماما كالحبال فيهبط أحدهما للبئر و يشرب ثم يرفعه صاحبه و ينزل التالي
حتى يشرب كلاهما واتفقا على تنفيذ الخطة.
و بالفعل ربط ديق القماش حول خصره و نزل إلى البئر بمساعدة صديقه موقي
الذي بقى أعلى البئر و حينما ارتوى ديق من ماء البئر رفعه موقي إلى الأعلى ، هنا
حان دور موقي للنزول إلى البئر فربط القماش في وسطه و أمسك ديق القماش في البداية
و ما إن اقترب موقي من قعر البئر حتى تذكر
ديق أمانيه و رغبته بالتخلص من موقي حتى تخلوا له المدينة و قال في سره " لقد
حانت فرصتك اليوم" فأفلت قطعة القماش ثم انصرف و كأنه لم يفعل شيئاً.
وقع موقي في قعر البئر و لحسن الحظ لم يصب بأذى ، فأحسن النية بصديقه
ديق و قال في نفسه " لعل القماش أفلت منه" فأخذ ينادي صديقه و لكن لا
إجابة ظل يردد و ينادي و حينما لم يسمع أي صوت صمت موقي آخيرا. و في منتصف الليل
سمع حركة غريبة أعلى البئر و سمع أصوات ضباع تقترب، كانوا ثلاثة ضباع و ياللعجب
سمعهم يتحدثون فقال الضبع الأول " هل تعرفون بنت الملك التي لم تجد دواءاً
لعلتها لو أنهم قصوا أظفارها العشرين ثم بخروها به لطابت من مرضها".
و قال الضبع الثاني للأول " هل تعلم أن هناك خزنة من الذهب مدفونة
تحت الشجرة الكبيرة في شرق المدينة" ، و قال الثالث " هل رأيتم هذه
المدينة الظمئانة الشحيحة المياه لو أنهم أزاحوا الصخرة الكبيرة في شمال المدينة
لتفجرت المياه من تحتها و أصبحوا في نعمة". انصرف الضباع الثلاثة و استسلم
موقي للنوم من شدة التعب و هو متعجب مما سمع و لم يستيقظ إلا على أصوات مجموعة من
الناس قدموا للتزود من البئر في صباح اليوم التالي. تمسك موقي
بأول دلو تم رميه و أحس صاحب الدلو بثقله فطلب المساعدة و بالفعل خرج موقي من
البئر و الناس حوله مندهشون.
فحكى لهم و هو يرتجف من شدة البرد ما حدث له بالأمس و كيف تركه صديقه ديق بعدما أفلته في البئر، اتجه بعد ذلك إلى المدينة متجهاً إلى قصر الملك و بعد محاولات عديدة تم السماح له بالدخول و رؤية الملك. دخل إليه موقي و قال له " لدي دواء ابنتك الذي أعيا الأطباء". صرخ الملك في وجهه و قال له " يا ويلك إن كنت تكذب علي لأفصلن رأسك عن جسدك و قد فعلتها بكثيرين قبلك كذبوا علي".
رد موقي بثقة " أنا لا أكذب و سأعالج ابنتك و لكن ما جائزتي إن
عالجتها؟" ، رد عليه الملك " إنني أنصحك بأن تحتفظ برأسك و لقد يأست من
شفاء ابنتي ، و هي وحيدتي فإن أنت داويتها فأعدك بأنني سأزوجها لك". تجمهر
أهل الملك لمشاهدة هذا الرجل الذي يدعي قدرته على مداواة ابنة الملك و كان الكثير
منهم يتأسف لهذا المسكين الذي سيقطع رأسه بعد قليل. ابتدأ موقي بقص أظافر ابنة
الملك بمكينة و قد استغرب الحضور فهم كانوا يظنون أن معه دواء للشرب ! طالبهم
بموقد فيه جمر و غطاء ، و فعلا وضع الأظافر التي جمعها في الموقد ثم غطى ابنة
الملك و الموقد بجانبها و الجميع مترقبون إلى ما ستنتهي إليه الأمور.
بعد برهة من الزمن استيقظت ابنة الملك من غيبوبتها و كأنها كانت في
نوم ، و قالت صارخة " الحمدلله أنا بخير ...لقد شفيت". فرح الملك و أهله
فرحاً شديداً بشفاء ابنتهم الوحيدة ، و بالفعل أوفى الملك بوعده و تزوج موقي من
ابنة الملك و أصبح أميراً من العائلة المالكة. و بعد فترة من الزمن و بينما يتشارك
موقي جلسة عائلية مع الملك تحدث للملك قائلاً " ماذا لو أخرجت لكم ماءاً و
أنهيت عطش أهل المدينة و حللت مشكلة قلة المياه ، ماذا يكون جزائي عند جنابكم؟".
أجابه الملك " الماء هو حياة للناس و الماشية و النباتات و لو
نجحت و أتيتنا بالمياه فسوف ترث العرش من بعدي". وافق موقي على ذلك وطلب من
الملك أن يشهد الشعب على قرار وراثة العرش. و في صبيحة أحد الأيام نفخت الأبواق و
اجتمعت رعية الملك في ساحة المدينة يترقبون حديث الملك. تحدث إليهم الملك و أخبرهم
بقراراه توريث العرش لزوج ابنته الوحيدة إن تمكن و حل معضلة المياه ، وافق الشعب
على ذلك إن تحقق الشرط.
هنا تحدث موقي للشعب و طلب منهم أن يحملوا معاولهم إلى شمال المدينة
عند الجبل الصغير و يزيحوا الصخرة الكبيرة هناك. ذهب جميع رعايا الملك باتجاه
الصخرة و بدأو العمل بضرب معاولهم على الصخرة الضخمة و بعد جهد كبير تفجر ينبوع
ماء عذب أسفل الصخرة . و بعد سنوات توفي الملك و تولى موقي الحكم ليصبح الملك
الجديد للمدينة كما كان متفقاً عليه.
أما خزنة الذهب فلم يخبر موقي أحداً بالأمر و بنى بيتاً فوق موقع
الكنز و استخرج الذهب. مرت الأيام و موقي يعيش في سعادة و في أحد الأيام كان
مستلقيا فرأى من نافذة قصره صديقه ديق و مازال يدوربذلك الوعاء الذي يجمع فيه أموال
المتصدقين و المحسنين. فقال لحراسه ائتوني بذلك الرجل الذي يمشي في الشارع ، فلحق
الحراس بديق و أحضروه أمام الملك الذي أمره بدوره بالجلوس بين يديه. رد ديق و هو
خائف يرتجف " أيها الملك أنا رجل مسكين و لم أفعل شيئاً فلماذا قبض علي
الحرس؟ وأنت ملك عادل لذلك أطلب من سيادتكم إطلاق سراحي".
رد عليه موقي باسماً " يا رجل لم يقبض عليك أحد لكنني أمرتهم
بإحضارك ، فهل تعرف من أكون ؟" رد عليه ديق " أنت الملك و السلطان و إنك
ملك عادل و لا أعرف عنك أكثر من ذلك". فقال له الملك " ألا تتذكر الرجل
الذي كنت صاحبه لفترة طويلة و كنتما لا تفترقان هل نسيته؟" أجاب ديق متعجبا
" أإنك أنت ؟ لقد شككت لوهلة بالصوت و كنت أقول لنفسي أين سمعت هذا الصوت من
قبل؟ فمن إين لك كل هذا ؟! ".
أجابه الملك موجي " وجدت كل هذا في المكان الذي تركتني فيه آخر
مرة" ، أجابه ديق " فهمت" ثم هرب خارجاً و لم ينتظر أي توضيحات
أخرى. هرب ديق باتجاه البئر الذي أصبح مهجوراً و لم يعد أحد يشرب منه بعد تفجر
المياه شمال المدينة فرمى بنفسه في البئر. غابت الشمس و حينما انتصف الليل اجتمعت
الضباع الثلاثة كعادتها فوق البئر تتجاذب أطراف الحديث ، و تحدثوا أن الأمورالثلاثة
التي تحدثوا عنها قد تم تنفيذها فلا بد أن أحدهم يسترق السمع أسفل البئر فأخذت
الضباع تحثوا التراب على البئر حتى تدفن من يستمع إلى حديثها. و لم يخرج ديق من
البئر الذي أصبح قبره بعدما وقع في الحفرة التي أرادها لصديقه.
خاتمة:
يقول المثل الصومالي : daacadi ma hungowdo ، و معناه قريب من " لا يخسر الإنسان المخلص الصادق" وهناك بيت من الشعر
أحب ترديده دائما و أتخذه شعاراً " من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب
العرف بين الله و الناس" ، و خلاصة قصتنا هذه و حكمتها أن تعامل الناس بحسن
نية و تتخذ الإخلاص و الصدق سبيلاً في عملك و صداقتك و زواجك و في عمل الخير. لا
تنتظر مردوداً إلا من الله و لو ضاع الإخلاص و الصدق بين الناس فلن يضيع مع الله
فاجعل عملك خالصاً لوجهه و صف النية في سبيله يرزقك و يجازيك من حيث لا تحتسب و لا
يخطر لك على بال.